انتحرنا من زمان… ولم نمت بعد!!! – حبيب يونس

الإثنين, 12 أغسطس 2013, 15:51

رادار نيوز – زحمة سير خانقة، قتيل على طريق عامة في حادث سير، إغلاق نادٍ للمثليين، سقوط خادمة آسيوية من شرفة منزل مخدوميها، قطع طريق فرعية بالإطارات المشتعلة احتجاجًا على موضوع قد يكون تافهًا، وجود جثة فلان مقتولًا أو مشنوقًا، طلاق فنانة، غرائبية فستان أخرى، وفاة طفل رفض مستشفى استقباله… إلخ، عناوين أخبار باتت تحتل صدارة نشرات الأخبار في الإعلام المرئي والمسموع، وتُفرَد لها صفحات في الإعلام المكتوب وعلى المواقع الإلكترونية، نَسْخًا لتجربة تلفزيون الواقع حتى في الأخبار.

لا أقلل من أهمية هذه الأخبار، خصوصًا بأبعادها الإنسانية وإشكالياتها المجتمعية، لكن تصدُّرها غيرها من الأحداث المهمة المتلاحقة التي نشهدها، يطرح علامات استفهام كثيرة، أقله من زاوية جذب المزيد من القراء أو المستمعين أو المشاهدين، ما دامت القضايا المصيرية هي إياها مذ وعينا على الحياة، حتى باتت مملة. وهو ملل تسللت منه وسائل الإعلام الباحثة عن الاستمرار وحب البقاء، وسط تراجع كبير في الاستثمارات المالية والموارد الإعلانية، لتركز على هذا النوع من الأخبار، لعلها تفلح في تعويض بعض خسارة.

لكن اللافت أن هذه الوسائل لم تصدِّر مثلًا خبر انتحار الصحافي والسيناريست والكاتب نصري عكاوي (في العقد السابع من عمره)، مع أن إلقاءه بنفسه من الطبقة السادسة في منزله في سد البوشرية، بعدما يئس من إيجاد مورد رزق يقيه الجوع، وسدت في وجهه سبل الوظيفة، يندرج في خانة توجهها الجديد نحو “أخبار الواقع”، حتى إني لم أجد له صورة على الشبكة العنكبوتية، أو مرفقة بالسطور القليلة التي كتبت عنه أو قيلت فيه.

أأستغرب؟ كلا… ربما لأن هذه الوسائل هربت من حقيقة تحاول إخفاءها، وهي أن نصري عكاوي انتحر ومات، أما نحن، المنعوتين بأهل القلم والفكر والإعلام وقادة الرأي، فقد انتحرنا من زمان، جماعيًّا وفرديًّا، لكننا ما زلنا على قيد الحياة، في موت مؤجل، أو مع وقف التنفيذ… إذ إننا نعمل في وسط لا مستقبل له، ولا أفق، ولا أمان، ولا تقدم. والسبب مزاج صاحب رأس المال الذي يسرف فيضخ في جسم المؤسسة دمًا جديدًا، ثم يقرر أن يقتصد، لأنه غنى موَّاله “الإعلامي” الفضفاض، وأبلغ إلى من ينبغي إبلاغهم رسائل علنية ومبطنة، فيبدأ بالتوفير والتشحيل. والضحية أهل القلم والفكر والإعلام وقادة الرأي ما غيرهم، ولاسيما منهم أصحاب الرواتب العالية والمناصب المرموقة. مرحبا عصر النفقات، طمئنا عنك، نحن في عصر النفاق المسمى زورًا حرية التعبير وحقوق الإنسان والعامل.

مِنّي وعَلَيّ… أعرض لحلقات من مسلسل انتحاري المتواصل، مذ طغى المال السياسي على ما عداه من القيم والمبادئ التي حكمت العمل الصحافي طويلًا. انتحرت مرة عن سطح سيارة رباعية الدفع اشتراها “كاش” صحافي معدم مبتدئ تدرج في الصحيفة حيث أعمل، وما كان يتقاضاه منها مصروف جيب ليس إلَّا. “كاش”؟ ويحي، فقد تزلم لنافذ سياسي، وراح يستعطي من هذا وذاك من الذين يدورون على المواقع الرسمية يزورونها ليصرحوا، يبتزهم بحجب خبر زيارتهم إذا لم يكرموه… فأنعموا وأكرموا، وراح زميلنا يفشخ بسيارته، وينفث دخان سيجاره، وهو يقود. مرَّ انتحاري عرضيًّا، كانت ثمة ورشة تعبيد للأرصفة، فوقعت على رمل.

انتحرت مرة ثانية، عما هو أعلى من صخرة الروشة… عن جبل مستحضرات تجميل وضعتها على وجهها مذيعة لا تملك من مقومات المهنة سوى جمالها وصداقتها لنافذ في وسيلة الإعلام حيث تعمل. أما ذكاؤها وثقافتها وحسن تصرفها ولغتها السليمة، فلزوم ما لا يلزم. ولم أصب بأذًى، إذ اصطدمت بتلة من البوتوكس الطازج المعبأ جيدًا في وجنتيها، وكُتب لي عمر جديد.

وانتحرت ثالثة، حين حصَّلت تعويض نهاية الخدمة من الضمان، فـ”شَقَعت” الأوراق النقدية للمبلغ المرقوم، واحدة فوق أخرى، وقفزت عنها. فإذا بي كمن يخطو خطوة إلى الأمام… وما زلت أتنفس حتى اليوم.

وانتحرت رابعة عن كومة أخطاء لغوية ارتكبها “علَّامة علم” في مهنتنا العزيزة، كما يروج لنفسه، وتصدقه العامَّة، ويعرف من أين تؤكل كتف العلاقات العامة، وكان يلقي محاضرة مكتوبة، ولا يدري أحد من كتبها، فما كان مني إلَّا أن هويت في حضن ألف مقصورة، وقد أكثر منها النص، لاغيًا الألف الأخرى من أي قاموس.

وانتحرت وأنتحر كل يوم من أداء مذيعين وكتّاب ومراسلين، وكل مرة أنجو لسبب لا أتخيله، من دون أن أنسى أن كل عامل في هذه المهنة متروك لربه، مهما كثرت القوانين التي تدعي إنصافه، ومهما تعددت النقابات.

انتحرنا ولم نمت بعد… لم تأت ساعتنا بعد… ما زلنا نأكل ونشرب… ما زال لدينا أمل. لكن نصري عكاوي خاب، فانتحر ومات.

المهم، يا زميلي مهنتي الراحل، أن مطلوبًا للعدالة بتهمة قتل ضابط وجندي من الجيش اللبناني، نجا بالسلامة من محاولة اغتيال، وقد اتصل به كبار القوم مطمئنين إلى سلامته… فنم قرير العين (كما يُختم أي نعي رسمي، لم تحظَ بمثله، ويا للأسف)، ومت مطمئنًّا عنك وعنَّا أجمعين.

إضغط هنا
Previous Story

دفن في الفضاء الخارجي

Next Story

حتى آخر الزمن – دانيال ستيل الدار العربية للعلوم ناشرون

Latest from Blog

رامونا يونس: العناية بالبشرة هو استثمار..

ولعدم النوم أبداً دون ازالة الماكياج! في عالم الجمال والعناية بالبشرة، برزت أسماء كثيرة، لكن قلة من استطعن الجمع بين الاحترافية والشغف الحقيقي بما يقدمنه. من بين هؤلاء، السيدة رامونا يونس، الناشطة

زخم الرئاسة الاولى وتحقيق الاستقرار المالي والنقدي – بقلم العميد الدكتور غازي محمود

يعيش لبنان منذ انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية عرساً حقيقياً، ويشهد زحمة مهنئين شملت كل من الرئيسين الفرنسي والقبرصي بالإضافة الى امين عام الأمم المتحدة، وكل من وزير خارجية الأردن ووزيرة
Go toTop