رادار نيوز – قد يبدو للبعض أن كاتب هذا العنوان، وبالتالي المقال، آتٍ من كوكب آخر. حسنًا.
هناك من يبني أحكامه على ما يرى ويسمع. وهنالك من يصدق تمنياته على أنها حقائق. وثمة من يخرج بتصريحات معلبة أو ملقنة له، من دون أن يعي ما يقول، أللهم إلَّا أن ما يتفوه به دُرجة (موضة) تجري على شفاه وألسُن.
وآخر “صرعات” الموضة هذه تشبيه مصير لبنان اليوم بمصائر دول أوروبية وعربية تعاني صراعات وحروبًا، هو الذي كانت اشتُقَّت من اسمه، زمن الحرب عليه بين العامين 1975 و1990، نعوت وصفات وتسميات لتُطلق على أوضاع دول على شفير الانفجار أو الحرب أو الأزمة، حتى إن مصطلح “اللبننة” دخل قواميس كثيرة على أنه يعني التشرذم والتقاتل والانقسام…
لكن أول نعت اشتُقَّ من اسم منطقة للدلالة إلى مصائر شعوب ودول، على ما أظن، كان “البلقنة”، أي بحسب علم الجغرافيا السياسية تقسيم منطقة جغرافية دويلات متعددة متعادية، مصحوبًا بالعنف والصراع الديني والتطهير العرقي.
ودرج قبل عقد من الزمن مصطلح “الصوملة”، وإن كان له معنى بعيد أساسًا من السياسة، وهو جفاف الجلد، ليجمع الانقسام وتحول السلطة الواحدة سلطات تتنازعها القبائل، أضف إلى ذلك قرصنة السفن، من دون أن ننسى طبعًا التخلف والفقر.
ويُعدُّ اليوم مصطلح “العرقنة” الأكثر شيوعًا، في “همروجة” المسمى ربيعًا عربيًّا، إذ يبدو أن كل الهدف منه إعادة رسم المشهد الإقليمي بجغرافيته وديموغرافيته وأنظمة حكمه وقواه ومواطن النفوذ فيه، من خلال إحداث فتن طائفية ومذهبية، باعتماد أسلوب الإجرام الجماعي المتمثل بتفجير السيارات المفخخة التي لا تستهدف شخصًا بعينه، إنما إثارة الرعب وسَوْق الاتهامات وتأليب فريق على فريق وجرهما إلى المواجهة والتقاتل… وهكذا، وبعد أن يسقط الحجر عن الحجر، وتتقوقع مكونات أي مجتمع، كل منها بحسب مذهبها في منطقتها، على غرار الغيتو، أو تؤثر الرحيل الجماعي، حيث لا حول لها ولا قوة، تضع دول القرار، أو بالأحرى دول تقاسم القرار وفرض المصائر يدها على الخارطة، وتروح مقصاتها تُعمل فيها تفصيلًا وتقاسمًا، بما يناسب أطماعها ورغباتها ومكاسبها.
هذه المصطلحات جميعًا احتلت الشاشات والأثير والصحف والمواقع الإلكترونية، في التصريحات والتحليلات والمقالات… بعد مسلسل التفجيرات بالسيارات المفخخة الذي بدأ بالضاحية الجنوبية، مرتين في نحو شهر، وحط رحاله في طرابلس مرتين في آن، حاصدًا حتى الآن عشرات الشهداء ومئات الجرحي والمتضررين.
فبدلًا من إرسال غربان الكلام إلى موقع الجرائم الجماعية هذه، تنعق فيها، لتعميم ثقافة الخوف والحذر والقلق، وبث سموم الفتن والتحريض والاتهامات العشوائية، على أن ما ينتظر لبنان “بلقنة” و”صوملة” و”عرقنة”… لِمَ لا تُطلق في سمائنا التي ما زالت صافية، وفي هوائنا الذي ما زال منعشًا، وفي مدننا وقرانا التي ما انفكت تتحدى الموت، وتجترح للحياة ألف معنى ومعنى، وما برح أهلها يُقدِمون على الفرح بفرح، وعلى العطاء بلا منة، وعلى الإبداع في مختلف المجالات… حمامة واحدة، وإن كانت رمز سلام، اسمها اللبننة؟
نعم اللبننة، بمعناها الحقيقي، أي نموذج المجتمع المتنوع دينيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، الذي سبق عصره بسنوات، وهو ما تصبو إليه مجتمعات كثيرة في العالم، ويحيا أبناؤه وفق نظام اتفقوا عليه وارتضوه لأنفسهم… على أن تضاف إلى هذا المعنى، حقيقة أخرى هي اتحاد قواه جميعًا على إنقاذه، ردًّا على ما يحاك ويخطط للشرق، ومن ضمنه لبنان، مُتخلِّين في لحظة تجلٍّ (لا تخلٍّ)، عن أي مصلحة أو مكسب أو رهان، وملتقين في حكومة جامعة، وعاقدين النية والعزم على الخروج من هذا الجحيم المستعر حولنا وعندنا، مثل تُسحب الشعرة من العجينة… وهذا ليس بمستحيل.
قد يتهم البعض كاتب هذه السطور بالتفاؤل. وقد يقول بعض آخر: فالج لا تعالج. وقد ينبري بعض ثالث إلى النوم على ظهره من كثرة الضحك.
كلٌّ حرٌّ في ما يفكر. لكنني ما زلت أؤمن، حتى آخر رمق من حياتي، بنموذج لبنان الفريد، وبحضارة اللبننة. ومن لا يعجبه هذا الكلام، فليرحل إلى البلقان، أو فليضرب رأسه ببرج بابل (وبابل في العراق)، أو فليشحذ الملح على شواطئ الصومال، إذا ما وصل إليها ولم ينقضّ عليه القراصنة!!!