رادار نيوز – الأمير بشير الثالث، المعروف بـ”بو طحين”، شخصية حكمت لبنان بين العامين 1840 و1842، خلفًا للأمير بشير الشهابي الكبير. “معتَّر”، لا أحد يأتي على ذكره، أو على ذكر مأثرة واحدة، عن عهده القصير، لأنه ربما كان أسوأ حكام لبنان، وأكثرهم ضعفًا، ولم يُحفظ من عهده “الميمون”، الذي شهد صراعات دولية وإقليمية، وخلافات محلية كثيرة، إلَّا أنه وزع طحينًا على الناس.
ونسجًا على منوال إعلان شهير عن كليوباترا التي كانت تستحم بالحليب، كان بشير الثالث إذًا يوزع الطحين. والمعروف أن للطحين فوائد جمة، أبرزها أن خبزنا كفاف يومنا، يُصنع منه… فهل من كفاف يوم بعد، وقد أوشكنا “نشحذ الرغيف”، فيما “عجين” السياسة يتمدد تحت أنظارنا، فلا تنتج أفرانها سوى الجمود والانتظار؟
فقد بات العجين عنوان هذه المرحلة السياسية، المأسورة بتطورات ما كان يسمى “الربيع العربي”، والذي يبدو أن ثمة ثورة ربيع عليه لاستعادته بعدما ضيع أصحاب المصالح الدوليون والإقليميون بوصلته، بدأت في مصر، وما زالت، وهي تمتدُّ إلى تونس وليبيا، فيما وضع سوريا يوحي أن الحل العسكري قد يسبق الحل السياسي، إذا ما استمر الجيش النظامي يحقق تقدمًا تلو آخر، ويستعيد مدنًا ومناطق استراتيجية.
إذًا… لم وجع الرأس؟ هذا لسان حال معظم المسؤولين اللبنانيين، الذين يندر أن تجد من لديه منهم مبادرة أو رؤية لإخراج أزمة لبنان من متاهة، ما كان يجب أن يدخلها، لو وعوا منذ البداية كيف يحصنون الداخل اللبناني، مستفيدين من انشغال العالم والمنطقة عنه.
والحل؟ راوح مكانك. قطِّع ما شئت من وقت. إملأ الشاشات والساحات بالتصريحات والحوادث المناسبة. وليبقَ القديم على قدمه. حكومة تصريف أعمال إلى أجل غير مسمَّى. رئيس حكومة مكلف إلى أجل غير مسمَّى. مجلس نيابي ممدد لنفسه إلى أجل نرجو أن يكون مسمى. تعطيل الإدارة بالخلافات المستمرة على التعيينات، وتراكم الشواغر فيها، إلى أجل غير مسمَّى. غياب السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي تنصف العمال والموظفين، وتأجيل بت مطالبهم، إلى أجل غير مسمى. إضعاف المؤسسات الأمنية والعسكرية، باستهدافها عسكريًّا وأمنيًّا وإرهابيًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا، ومن ثَم صرف الجهد في البحث عن فتاوى قانونية ودستورية لملء الشواغر الآنية والمرتقبة في مراكزها العليا، بدلًا من اتباع الأصول الواضحة والمعايير غير الملتبسة، من أجل تحقيق هذه الغاية. وغدًا وبعد غد، ثمة استحقاقات دستورية داهمة، قد يتصدى لها هؤلاء السياسيون، كما يتمدد العجين، بالتمديد…
وإذا كانت هذه عجنة سياسيينا هؤلاء، فأي خبز سنأكل… وكفاف يومنا بالكاد كان يكفينا، حتى زيد على الأفواه الأربعة ملايين، تعداد شعب لبنان، “على التخمين”، نحو مليوني فم من لاجئين قدامى ومحدثين؟
سياسيون، لا يحكُّون رؤوسهم لابتداع حل، بل يكتفون بما تيسر، خصوصًا أن الدستور والقوانين والمجالس والإدارات، باتت كالعجينة بين إيديهم، يطوعونها كما يشاءون، شرط ألا ينكسر خشمهم أو ينزعج خاطرهم إذا ما فكروا قليلًا.
وعليه، ماذا يكون الفرق بينهم وبين بشير “بو طحين” (لقب كان يُكنَّى به البعض في ذاك العصر، إذلالًا ومهانة)؟ هم يعجنون اليوم، وهو كان يوزع الطحين. هم أسرى رهانات وحسابات وانتظارات، وهو كان واقعًا بين شاقوفي الإنكليز والعثمانيين، والصراعات الداخلية. هم عاجزون ضعفاء قصيرو النظر، وهو مثال العجز والضعف إلى حد أنه كان ألعوبة في أيدي النافذين في عصره.
ثمة فارق مضحك مبك. فسياسيونا هؤلاء، كل في برجه العاجي، سواء كان قصرًا أو إقطاعًا، أو نفوذًا، أو قوة، أو مالًا، هوايتهم أن يغنوا للشعب ويهدهدوا كي ينام فيذبحون له طير الحمام، فينساهم، فلا يلاحقهم أو يحاسبهم. أما بشير “بو طحين” الذي كان مولعًا بتربية الحمام، فقد بنى له برجًا في قصره، لكنه، بسبب مشكلات في مسالكه البولية كانت تجعله يلجأ دائمًا إلى الحمَّام، اضطر إلى بناء حمَّام قرب البرج، كي ينعم بممارسة هوايته، حتى درجت على ألسنة العامة أهزوجة تختصر العهد “البو طحيني”، أتى على ذكرها العلامة فؤاد أفرام البستاني وشيخ الأدب الشعبي سلام الراسي، في مؤلفاتهما، تقول: “والأمير بشير التالت بشو قام؟ عمَّر شَشْما وبرج للحمام”.
فألله يعمِّر مع سياسيينا، غير ما عمَّر سلفُهم بشير الثالث. والثالث بالإيطالية تعني “تيرسو”… فحاشا وكلَّا أن يكونوا إلَّا أوائل، وإن كانوا الأخيرين زمانهم. عفوك أبا العلاء المعري.