رادار نيوز – المشهد العربي العام يبرز تناقضات كبيرة. فهناك مشاهد سلبية تعمّ الفضاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الثقافي والحضاري كما هناك مشاهد مشرقة نعتزّ بها كإنجازات المقاومة والثقافة التي ترسّخت رغم كل المحاولات والمؤامرات لوأدها أو تحييدها أو محوها. كما أن تلك الثقافة دمجت بين العلم والايمان والتخطيط فقلبت المعادلات التي كانت تتحكّم بمسار الأمور في الوطن العربي. لكن ما نريد التطرّق إليه الآن هو مسؤولية النخب العربية عن “السلبيات” التي ساهمت إلى حدّ كبير في تأخير التحرير الكامل لفلسطين ووحدة الامة وتحقيق المشروع النهضوي العربي.
فعندما نتكلّم عن النخب العروبية نقصد بذلك كل من يؤمن بالمشروع العربي النهضوي بأبعاده الستة الذي أطلقه مركز دراسات الوحدة العربية في شباط/فبراير 2010 في الذكرى الثانية والخمسين للوحدة ولقيام الجمهورية العربية المتحدة. ونحن من الذين يعتقدون أن التراجع العربي المعاصر بدأ مع الانفصال وليس مع هزيمة حزيران 1967. كما أن الثورة المضادة أخذت مداها بعد غياب القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر، غياب أصبحنا نشكّك أكثر فأكثر بطريقة رحيله. لكن هذا حديث آخر.
فالمشروع النهضوي العربي الذي أطلق في تلك الذكرى المجيدة نتيجة مجهود فكري استمرّ أكثر من عقد من الزمن شارك فيه مثقفّون وباحثون وناشطون من كل الأطياف السياسية العربية تماشيا مع الرسالة الوحدوية لمركز الدراسات الوحدة العربية. ونلفت نظر القارئ أن المركزلم يتوقفعنإقامةمحاولات لجمع مكوّنات الأمة من التيّارات السياسية المختلفة ساهم معهفي ذلكبشكل فعّال كل من المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي. وهنا تكمن مسؤولية النخب العروبية لعدّة أسباب:
السبب الأول هو الرد على جملة من الطروحات المغرضة التي تحاول أن تبرّر غياب مشروع فكري يناهض المشروع الداعشي. فالمشروع النهضوي العربي جاء من رحم التيّار العروبي الذي يضمّ كل من السلالات القومية التقليدية كالبعثيين والناصريين والحركيين من القوميين العرب ومعهم التيّارات القومية الإقليمية، والتيّارات الإسلامية المختلفة من سنّة وشيعة، ومن اليساريين من شيوعيين واشتراكيين، ومن الليبراليين. ونعتقد أن مسار العروبة مرّ بعدة مراحل للوصول إلى تحديد من هو القومي العربي بل نفضّل مصطلح”العروبي”لأنه هوالذييؤمن بالمشروع النهضوي العربي بأبعاده الستة، أي الوحدة والاستقلال الوطني والتنمية المستقلة والمشاركة والعدالة الاجتماعية والتجدّد الحضاري.
هذا المشروع هو المشروع الوحيد الموجود والقابل لمواجهة التحدّيات الخارجية والداخلية. فإلى حدّ كبير أصبحت التحدّيات الخارجية داخلية كما أن التحدّيات الداخلية خارجية وهذا أمر طبيعي يعود إلى التواصل بين الشعوب والأمم في عصر الثورة التكنولوجية في التواصل كما أن الموقع الاستراتيجي لأقطار الأمة يجعلها محط اهتمام الدول الطامعة في ثروات الأمة ناهيك عن الصراع التاريخي مع الغرب.
كما أننا نعتقد أن المشروع النهضوي يحمل في طيّاته إضافة إلى تشخيص حال الأمة الحلول الاستراتيجية للنهوض بالأمة. وهذا المشروع بطبيعته مشروع مقاوم حيث العمل المقاوم لا يتناول فقط الاحتلال بل شتّى أنواع الظلم والانحراف الأخلاقي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فالمقاومة هي ثقافة المشروع النهضوي في متنه الحضاري وإلاّ لن تكون نهضة في الأمة. لذلك نشدّد على ضرورة تكريس وتعميم ذلك المشروع في الوعي العربي. فالتسليم أنه هناك فراغ فكري في الوطن العربي ليس مقبولا.
والسبب الثاني هو مسؤولية النخب العروبية التي ما زالت تتعامل مع المشروع النهضوي العربي وكأنه إحدى المراجع الفكرية التي تُذكر في المؤتمرات والمنتديات فقط بدلا من أن تكون في متن الخطاب القومي اليومي. كما أننا نشعر أنه هناك نوع من الخجل في ذكر مصطلحات ك “الأمة العربية” و”الوحدة” وكأنها رديفة لحقبة ذهبت مع الريح ونقف على أطلالها! فالعديد من تلك النخب تخجل في إطلالاتها الإعلامية وفي توقيعها لمقالات أن تذكر انتمائها القومي وتكتفي بلقب “الباحث والكاتب” أو “الباحث الاستراتيجي”! فعلى ما يبدو عند هؤلاء أصبح العمل القومي “سرّيا”. ربما هناك حسابات تفرضها قساوة الحياة ولكن هذا لا يبرّر تناسي الهوية القومية.
السبب الثالث هو تقاعس العروبيين عن المواجهة الصريحة للمشاريع المتطرّفة التي تهدف إلى الإلغاء الجسدي والفكري والمعنوي للآخر والاكتفاء باختزاله بأنه مشروع من صنيعة الدوائر الاستخباراتية الغربية والصهيونية ومعها بعض الدول الإقليمية. فبغض النظر عن صحة ذلك الطرح إلاّ أننا لا نفهم تقاعس تلك النخب في عرض المشروع البديل وكأن الحد الأقصى لآمالهم هو العودة إلى حدود الدولة القطرية التي فرضها المستعمر الأوروبي! فبدلا من استثمار فعل إسقاط الحدود نراهم يندّدون بذلك وكأنها من فعل الشيطان. وحتى إذا أسقط الشيطان الحدود بين الأقطار العربية فهذه فرصة للمضي بالطرح الوحدوي!
هناك حالة إحباط نفسية عند العديد من العروبيين الذين يخجلون من التكلّم بالنصر الناتج عن التحوّلات التي حصلت وما زالت على كل من الصعيد الدولي والإقليمي والتي تكرّس تراجع ميزان القوة لمصلحة محور ثقافة المقاومة. فما زال البعض يتكلّم عن “الدمار” الذي ألحقته الحروب سواء في لبنان أو غزّة وكأن المقاومة هوايتها الحروب والدمار! وما زال البعض غير مقتنع بإنجازات المقاومة بل يعتبر كلفتها باهظة ولا يرى إلاّ المشهد السلبي في الأمة. وعند البعضتسيطر عقلية حساب الأرباح والخسائر على تفكيرهم. وبالتالي لديهم استعداد للاستسلام للأمر الواقعفلا يجدون أي جدوى لكافة المحاولات المقاومة ما لم تحقق النصر الفوري والحاسم. كما لا ينظرون إلى البعد الاستراتيجي لبعض العمليات فيقيّمونها بعقلية حساب الأرباح والخسائر المادية المباشرة.
لا نريد التقليل من قيمة إجراء عملية التقييم على أساس الربح والخسارة وإلا لكنّا من المتهوّرين. ولكن في القضايا المصيرية الكلفة الباهظة اليوم يتمّ التعويض عنها في المستقبل. فمعاركنا مع أعداء الأمة معارك استراتيجية وليست معارك على النفوذ والسلطة وإن لم نقلّل من قيمتهما.فبالنسبة لنا، لا نرى قتال حزب الله في سورية تدخّلا في الشأن الداخلي السوري أو وقوفا إلى جانب الحكم ضد متمرّدين ضدّه بل تجسيدا لقومية المعركة التي تخوضها سورية ضد أعداء فكرة الأمة والوحدة والمقاومة وثقافتها وأن تلك الحدود الوهمية التي فرضها المستعمر الأوروبي آن الأوان للتخلّص منها. فالحرب الكونية التي تُشنّ ضد سورية هي حرب ضد العروبة وحتىفكرة العروبة والمقاومة وثقافتها وليس لإجراء إصلاحات ضرورية ومحقّة كما يزعم أعداء الأمة. ونذكّر أن الحكم في سورية أقرّ بضرورة تلك الإصلاحات وأنجز ما كان ممكنا في ظل الحرب القائمة ولكن عدم اكتراث ما يسمّى ب “المجتمع الدولي” ومعه بعض الدول الإقليمية يدلّ بوضوح أن الحرب موضوعها وأد فكرة العروبة والوحدة وبالتالي ثقافة المقاومة الشاملة. فالمعركة في كل من سورية والعراق والجنوب وفلسطين معركة واحدة لا يمكن الفصل بينها.
هناك من يعتبر أن المعركة القائمة في سورية والعراق هي معركة لمواجهة الجمهورية الإسلامية في إيران وامتداد نفوذها على الساحة العربية. وكأن المقصود معاقبة الجمهورية الإسلامية على وقوفها إلى جانب قضية العرب الكبرى والمسلمين والأحرار في العالم أي قضية فلسطين. ففلسطين هي تذكير دائم للتقاعس الرسمي العربي في دعم الشعب العربي في فلسطين بينما إيران قدمت الكثير وعلى حساب رخائها وامنها وذلك من منطلق عقائدي أحرج الآخرين الذين يدّعون العروبة والاسلام! والانحراف السياسي عند هؤلاء أفرز أولويات عبثية كمقاومة إيران بدلا من مجابهة الكيان الصهيوني. ربما يفضلون إيرانا تحت حكم الشاه أو ما يشابهه والتابع للغرب وللكيان الصهيوني بدلا من جمهورية دعمت وما زالت القضية العربية في فلسطين.
والسبب الرابع هو أن الخطاب العروبي يجمع بين مكوّنات الأمة من مسلمين وغير مسلمين وبين مختلف المسلمين بينما خطاب الآخرين خطاب فئوي تفتيتي. إن أي خطاب غير الخطاب العروبي لن يستطيع أن يخاطب كل أبناء الأمة. فالعروبي يتحمّل مسؤولية الجميع وهمّهم بينما الآخرون لا يرون إلاّ أنفسهم. فهل هناك من خطاب آخريقوم بذلك غير الخطاب العروبي؟
والسبب الخامس هو تقاعس النخب العروبية في ترسيخ ثقافة الوحدة في سلوكهم الخاص والعام. فبدلا من التركيز على المشترك بين مختلف أطياف الأمة يتمّ التركيز على السلبيات. وبدلا م التركيز على بناء الجسور يتمّ التركيز على بناء المتاريس. وبدلا من التركيز على القضية العامة يتمّ العمل على القضايا الخاصة فيخسر الجميع القضايا الخاصة والقضايا العامة. ومن مسؤولياتهم أيضا التخفيف من الذاتيات والتركيز على رؤية الآخرين، والزيادة في التواضع والتخفيف في الغرور! فلا يصطلح السلوك العام إلاّ باصطلاح السلوك الخاص!
ننظر إلى مسؤولية النخب العروبية في المثابرة على طرح فكرة الوحدة وثقافة المقاومة وترويج المشروع النهضوي العربي. ليس هناك من واجبات أخرى غير تفعيل الخطاب العروبي ليصبح الركيزة للعمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.