رادار نيوز – أيها الوطن المصلوب على الجراحات النازفة، دعني من كلِّ جرح أقطف وجعًا واحدًا، وأروي قصته، لعلَّ البوح يخفِّف عنك وعنا قليلًا.
آه يا وطني. ما بهم بعض ساستك يستمرون في جلدك، بنظام قائم على اتفاق فرضته ظروف ومصالح دولية وإقليمية على أبنائه، وما زال منذ أكثر من عقدين ينزل بهم الأزمة تلو الأزمة، والمصيبة تلو المصيبة؟ اتفاق قيل إنه أنهى الحرب، فإذا به يؤججها في كل مفاصل الحياة، من تعيين حاجب في إدارة، إلى أرفع المناصب، ناهيك بالصلاحيات والانتخابات. وقد ظهرت عوراته مذ بدأ تنفيذه وأصبح دستورًا، واشتكى الرؤساء الثلاثة الذين تعاقبوا على الحكم بموجبه، وغيرهم من الوزراء والنواب والسياسيين، من أنه يقول بالأمر وبنقيضه، فيعطل سير الدولة، وكلما طالبوا بتصحيحه أو تعديله، تقوم القيامة ولا تقعد.
اتفاق راح، بدلًا من أن يرسي مفهوم المواطنة، يمعن في الطائفية والمذهبية، حتى جعلنا قبائل متناحرة، نحن الذين يفخرون بأن غنانهم في تنوعهم، ليقلب فارضو هذا النظام الآية: مرحبا غنًى، مرحبا تنوع… لا غنى إلا بما تفيض به خزائننا عليكم، ولا تنوع إلا في وجهات أسفارنا ورحلات استجمامنا.
اتفاق عالة على لبنان، لا يريح ولا يرتاح، ولا يحيد من درب من يريدون أن يختموا أكبر الجراحات نزفًا في جسد الوطن المصلوب.
آه يا وطني. لا تسعد أنك أفضل من أوطان العالم جميعًا، بأن لك رئيسي حكومة، “وز عينك”، فيما لكل منها رئيس واحد. زمن الاحتلالات والوصايات، كانت الحكومات تؤلف بعصا ساحر، وتستقيل أو ينتهي مفعول خدمتها، بعصا مماثلة. وبزوال الاحتلالات، واستمرار بعض الوصايات، باتت ولادة الحكومات لا تتم إلا بجراحة قيصرية، لئلا يتغير عليك شيء، أيها المصلوب على الجراحات.
كل أسباب التأخير في تأليف الحكومة قد تبدو مفهومة، من حصص وأحجام وحقائب ومناطق… إلا سببًا واحدًا. كأن ساستك هؤلاء، يا أيوب الأوطان، (بالإذن من نقيب الأطباء السابق الشاعر منير رحمة)، لم يعتبروا من تجارب الماضي، وأهمها أن أي حكم لن يستقيم بعزل أي حزب أو تيار أو جهة ممثلة لشريحة واسعة من اللبنانيين… من محاولة عزل الكتائب عام 1975، إلى محاولة عزل الشيعة، ممثلين بحزب الله اليوم، مرورًا بمحاولة استمرار عزل المسيحيين المستمرة منذ عقود، خصوصًا مذ بدأ تطبيق اتفاق الطائف. وثمة من لا يزال يتصرف بمنطق العزل والإلغاء، كأني به لم يقرأ ميشال شيحا الذي دأب على القول: من يحاول إلغاء طائفة من لبنان، يحاول إلغاء لبنان.
سلوك هؤلاء خطير… يتلذذون ربما بطعم الجراحات، ويفرحون بنزفها، ومن بعد حمارهم لا ينبت حشيش.
آه يا وطني. سيفك في خطر، كما قلمك. ويح سياسيين لا يخجلون من تهشيم الجيش اللبناني، صبح مساء، كرمى لحفنة إرهابيين كانوا يعملون على إثارة فتنة ليس في عبرا وصيدا فحسب، بل وفي كل لبنان، ففضحوا أنفسهم بأنهم هم من اخترعوا تلك الحالات الشاذة، وجعلوها أقنعة لوجوههم، ثم فُضحت أهدافهم وسقطت حججهم الواهية التي تلطوا خلفها طويلًا. وها هم يستمرون في مؤازرة المجرمين، بلا حياء وبكل وقاحة، فيما الجيش الذي أنقذ لبنان من الفتنة، بوأدها في مهدها، وحرر صيدا وأهلها، هو هو نفسه، الصامت الأكبر… لعل في صمته وشجاعته وبطولته ما يضمد جرحك الأكبر، يا مصلوبًا على مصالح هؤلاء الخائبين.
والقلم، كما السيف، يا وطني. آه من مأجورين يستبيحون الإعلام، مكتوبًا ومرئيًّا ومسموعًا، فيحشون أقلامهم وأصواتهم ووجوههم، حقدًا وضغينة وتأليبًا وخداعًا وكذبًا ودجلًا وتحويرًا وتحريفًا… لإبقاء التوتير سائدًا، بدلًا من أن يشهدوا للحقيقة، ولو كلفهم الأمر أن يستشهدوا من أجلها. أوليس كل صحافي مشروع شهيد؟
ثمة جراح بعد، يا وطني… فلائحتها أكبر من أن تتسع لها هذي السطور. ولكن اسمح لي أن أختم بشمسك التي كانت ثروتك، فإذا بالحروق التي تخلفها على أجساد مرتادي البحر، تجعلها نقمة. أهي طبقة الأوزون المثقوبة المسؤولة عن هذا الجرح؟ أم التصحر الذي يغزوك من شمالك إلى جنوبك، ومن بقاعك إلى جبلك فشاطئك؟ أم إغراء البرونزاج؟ ألله أعلم.
أرجو ألا أكون نكأت جراحاتك النازفة… يا وطني المصلوب عليها. أردتني منديل فيرونيكا، لا مسمارًا يزيد في آلامك. فسامحني، لأنك أنت من علمني أن أقول الحقيقة… والحقيقة تجرح.