لم يهنأ الرئيس المصري محمد مرسي… بالكرسي.
لم يكن مكتوبًا لمن “لطش” (باللهجة المصرية) نضال شعب واجه حكمًا فاسدًا حتى أسقطه، أن ينعم بغنيمته.
لم يشِ تصرفه في الحكم وممارسته وسلوكه، بالتزام ما قامت عليه حركة “الإخوان المسلمين” من مبادئ، منذ العام 1928، وأهمها اثنان: أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي، وأن تقوم فيه دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام وتطبق نظامه الاجتماعي وتعلن دعوته الحكيمة للناس.
فإذا به يُفتضح، أيما افتضاح، صنيعةً لأكثرَ من سلطان أجنبي، وإذا بالدولة الحرة مجرد جرم في فلك أجنبي إقليمي، وإذا بالنظام الاجتماعي إمعان في تجويع وحرمان في مقابل استئثاره والأزلام والمحاسيب بخيرات البلاد والعباد، وإذا بحكمة الإسلام تتحول على يده سخرية من كل ما قاله وأتى به من أفعال ورجال وقرارات وتعهدات والتزامات… ليحطِّم كل الأرقام القياسية في مجال السقوط السريع المدوي، ويقضي بالتالي على مسار حركة جاهدت كثيرًا كي تبقى على قيد الحياة أولًا، وعانت ثانيًا طوال 85 سنة مع مختلف العهود التي توالت على الحكم في مصر، بعد سنة واحدة، بالتمام والكمال، على فوزه بانتخابات شكك كثر في نتائجها وإدارتها، وحملته إلى رئاسة مصر.
صحيح أن ما سمي “الربيع العربي” بدأ مسيرته من تونس (أعانها الله)، وحط رحاله، من ثم، في مصر (ويا فرحة ما تمت)، وفي ليبيا (يحيا حكم القبائل)، وفي اليمن (حيث لا أحد يعرف كوعه من بوعه)، وفي سوريا (حيث فشلت كل المحاولات العسكرية والسياسية والدبلوماسية لإسقاط النظام)، وعرَّج على البحرين (ترانزيت… وسيعود). لكن الصحيح أيضًا أن مصر “المحروسة”، بما تمثل في المنطقة من قوة وثقل، وفي الوجدان العربي من أهمية، ولما يكتنزه شعبها من نضالات وثورات، لم تحتمل أن تصادر مجدَّدًا حريتها، هي التي ثارت في 25 كانون الثاني 2011 على من خنقها طويلًا، فهبت في وجه مرسي، بصوت عال، وبغالبية تكذِّب نتائج الانتخابات التي أتت به، ولسان حالها: إرحل.
مسار الثورة المصرية المضادة التي ستحقق، من دون أدنى شك، أحلام الثوار الحقيقيين المستمرين في حراكهم حتى إسقاط مرسي، لن يكون محصورًا بـ”أم الدنيا” فحسب. سبقه تغيير هادئ في قطر، ومشروع تغيير سيكتب له النجاح قريبًا في تركيا، واستعادة النظام في سوريا زمام المبادرة، خصوصًا بعد حرب القصير. وستعقبه بالتأكيد مسارات مماثلة، إن في الدول العربية التي حدث فيها “التغيير”، وإن في أخرى تخشاه وتتمسك بأهداب الكراسي والأنظمة.
ثمة داعمون غربيون وعرب وإقليميون لحكم الإخوان المسلمين، بدأوا يتحسسون رؤوسهم ويعيدون حساباتهم. لم يحسبوا أنه سيتداعى بسرعة مفاجئة لم يتصوروها. كانوا يراقبون الفوضى ليستفيدوا منها لاحقًا، فإذا بهم “يخرجون من المولد بلا حمص”. وستراهم، قريبًا، يبدلون سياساتهم، وأولى الإشارات صدرت من الولايات المتحدة التي استلحق رئيسها باراك أوباما نفسه باكرًا، فأبدى عدم اعتراض على سقوط حليفه… المرسي.
ودومينو السقوط المنتظر لا بد شامل لبنان. ولعل استئصال الحال الشاذة من مربع عبرا، مؤشر أول. وهذا ما يفسر تصعيد الحركات الإسلامية “الإخوانية” أو تلك التكفيرية، مواقفها، وإطلاقها تهديدات يائسة، ومحاولاتها ضرب الأمن والاستقرار، كنوع من أنواع البكاء المسبق على ما ستؤول إليه حالها…
تذكرني قصة مرسي بطرفة. قبع أحدهم طويلًا في السجن. وقبل أسابيع على قرب إطلاقه، فكر في مصيره حين يخرج إلى الحرية، هو الذي لا يحمل شهادة ولا يتقن مهنة، و”مقطوع من شجرة”. فإذا بنملة كبيرة تسرح على الأرض أمامه. حملها بين إبهامه وسبابته، وقال في نفسه: سأدربها على فنون وحركات، حتى إذا ما خرجتُ، أقيم عروضًا لتلك النملة في الأماكن العامة، تكسبني مالًا.
خرج صاحبنا من السجن، وقد وضع النملة في علبة كبريت. ومشى إلى أن طالعه مطعم فخم. دخله وطلب ما لذ وطاب، طعامًا وشرابًا، إلى أن أُتخم. لم يكن يحمل في جيبه ليرة واحدة. فكيف يدفع؟ نادى على النادل، وطلب منه صحنًا كبيرًا نظيفًا. أحضر له النادل الصحن وانسحب. فتناول النملة ووضعها فيه، وبدأ يختبر تجاوبها مع ما لقنها من تدريبات. وحين اطمأن، عاود مناداة النادل، وقال له، (وفي نيته أن يقدم أمامه عرضًا أول لها، يكون بداية لعمله المربح كما خطط، فيذهل به النادل، ويعفيه من دفع الفاتورة): أرأيت هذه النملة؟ فارتبك النادل وقضى عليها بإبهامه، وقال للزبون الحالم: عفوًا… ثم حمل الصحن وغادر.
انتهت الطرفة… يا إخوان. وانتهت اللعبة.