رادار نيوز – لا يجد علماء الاجتماع إحراجًا أو عيبًا، في أن يُسقطوا سلوك الحيوان على الإنسان، في مقاربتهم ظواهر اجتماعية، أو تحليلهم إياها، لاستخلاص عبر ودروس. وكم كان يحلو للدكتور سمير خوري، حين يُسأل، مثلًا، عن السبب الذي يحول دون توحد الموارنة، أن يجيب بما معناه: أن قوم مار مارون نشأوا وعاشوا خصوصًا في جبال لبنان الوعرة، حيث لا يستطيع الوصول سوى العنز. وحيال دهشة السائل بهذا التشبيه، يكمل عالم الاجتماع اللبناني، بابتسامة عريضة، سائلًا: هلَّا رأيت يومًا قطيع ماعز يسير في صف؟ فكل عنزة تكون قائدة نفسها… وكان الله في عون الراعي.
الراعي نفسه، أو غيره ربما، كان محور قصة سمعها سياسي كبير من عجوز لبناني، خبر الحياة بعيشه في قريته الجردية، واكتسب منها عبرًا بسيطة وألف فيها حكايا وروايات، يلذ لمحدثه سماعها.
قصد العجوز ذاك السياسي، ليشكو له تقصير نواب كتلته في معالجة قضايا المنطقة. وحين عرض له بعض أوجه التقصير، بلغة فيها الكثير من التهكم والمبالغة، سأله السياسي: ماذا تريدني أن أفعل، وأنا شخصيًّا لا يغمض لي جفن من أجل إحقاق الحق، ليس لأبناء منطقتي فحسب، إنما لكل من يستحقه أيضًا.
أجابه العجوز، بعدما طلب الأمان: اسمعني جيدًا يا “سيدنا الإكرام”. ثمة راعي غنم كان يسهر على قطيعه سهر أمٍّ على وليدها. لكنه راح يلاحظ أنه كلما “غطَّت عينه” مرة، وهو مستلق يرتاح تحت شجرة أو خلف صخرة، ينقص قطيعه غنمة أو أكثر. ومهما تنبه وغالب التعب، كان يخسر تحديه، ويخسر بالتالي رصيدًا مما يملك من “طرش”. فلجأ إلى راعٍ زميل مهنة يسأله ما العمل. أجابه: وما أدراني، ما عليك إلا الانتباه أكثر. وقصد راعيًا آخر، لم يشفِ جوابه الغليل. إلى أن التقى شيخ رعاة، فروى له ما يعانيه، وسأله: كيف أمنع الذئب من أن يفترس غنمة من قطيعي، أنا الذي لا تشرد عنه عيناي إلا في ما ندر، وإذا ما شردت، فلثوانٍ معدودة؟ أجابه الراعي المجرِّب الحكيم: المشكلة ليست فيك يا زميلي… بل في كلابك.
مهما يكن المسؤول الأول واعيًا وساهرًا ومتابعًا كل شاردة وواردة، لن ينجح في سد الثغر التي تتسلل منها الذئاب إلى قطيعه، إذا لم يكن معاونوه على شاكلته، عزمًا وإرادة وتضحية، لا مجرد أجساد متحركة وأفواه ناطقة وعبء على السياسة والمجتمع… والبشرية جمعاء.
فكيف إذا لم يكن الراعي، لا كلابه فحسب، على قدر المسؤولية أساسًا.
ثمة رعاة لنا، من السياسيين والحكام، يدَّعون أنهم العين الساهرة على حا ضرنا، وأنهم البوصلة التي تدلنا إلى مستقبلنا، مذ وعينا على الدنيا. فإذا بالحرب تندلع تلو الحرب، وإذا بالأزمة تنفجر تلو أختها، وإذا بالاغتيال يجر الاغتيال، وإذا بالجريمة تطارد الجريمة… وهم، يا رَعاهم الله، يرعون شؤوننا وشجوننا وأحوالنا، بكل ما أوتوا من جهد وبذلوا من عرق ووصلوا الليل بالنهار من أجل مصلحتنا وخيرنا وخير الوطن، على ما يقولون. فنصدقهم ونلقي باللائمة أحيانًا على أنفسنا، لنعيد التجديد لهم، ممثلين عنا، ونرضى التمديد لهم، إذا تعذر الانتخاب.
نحن شعب “ولا أشطر” في لعن الساعات: الساعة التي ولدنا فيها هنا؛ الساعة التي لم نحزم فيها حقائبنا ونهاجر؛ الساعة التي لم يحالفنا الحظ في كسب جائزة اليانصيب؛ الساعة التي عُيِّن فيها موظف لم يمرر لنا مخالفة وكان أقوى من المحظي الذي وسطناه لتمريرها؛ الساعة التي قررنا الانطلاق فيها من المنزل إلى مكان العمل إو للقيام بزيارة أو للتبضع، في عز ازدحام السير، فعلقنا “علقة بنت كلب” كما نروي حين نتأخر عن الموعد؛ الساعة التي تضبط لنا التيار الكهربائي، وساعة المولد؛ وحتى الساعة السورية التي سرقها لنا رجل سويسري، على ما كنا “ننكِّت” زمن الوصاية والاحتلال. وساعات وساعات ليست كالساعات… ولم نجرؤ مرة، بدلًا من امتهان لعنها، كلما “تفركشنا” بمشكلة ولو بسيطة، على الثورة والعصيان والتمرد على واقع صنعناه بأيدينا، ونتلذَّذ بلعنه صبح مساء، ليس إلَّا.
ليس الأمر ثنائية راعٍ وكلاب فحسب… ثمة أيضًا عنصر ناقص في “الخبرية” لتكتمل الثلاثية، هو نحن، أي القطيع. وأما عن هذا القطيع فحدِّث ولا حرج.
عسى من يقرأ هذه السطور، يخبر العجوز ليكمل الفصل الأخير الأهم من الرواية لذاك السياسي، ولكل سياسي، ولكل لبناني في الوطن والمهجر… وقد حانت الساعة، أليس كذلك؟