كان يا ما كان، في حاضر العصر، وليس من زمان زمان، أن أسبوعًا مرَّ على لبنان وجواره من البلدان، حمل من المفاجآت، السارّ منها والمأسوي المفجع، ما يجعلنا نسأل، متى تكف شهرزاد الفجاءة، لا شهرزاد الحكاية، عن ارتكاب الفحشاء السياسية، باسم الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وبرميل النفط، إلهها الذي تعبد؟
فجأة، وعمر القراء يطول، اشتعلت نار جهنم في عرسال. بعلمي أن الأمر في تلك البلدة البقاعية الحدودية المترامية الأطراف والمتداخلة بالجرد السوري، تحت السيطرة، أو على الأقل تحت توازن يبقيها ممرًّا ومتنفسًّا للمسلحين الذين يقاتلون النظام في سوريا، من دون أن يرتد الخطر على الداخل اللبناني. فجأة قررت داعش ومن يدور في فلكها، تغيير قواعد اللعبة، فهاجمت بكل ما أوتيت من قوة، الجيش اللبناني، في محاولة منها لتجاوز حواجزه ونقاطه ومناطق انتشاره إلى قرى الجوار، فتحتلها أو ترتكب فيها مجازر، كحلقة من حلقات مسلسلها الذي جعلها تبسط نفوذها على منطقة كبيرة بين سوريا والعراق وتعلن “الخلافة”…
وفجأة، وبعدما صد الجيش تلك الغزوة الهمجية، وقضى على المخطط الإرهابي، وبات قاب قوسين أو أدنى من تحرير عرسال واستعادتها إلى كنف الدولة والشرعية، تركته الحسابات السياسية في مهب الصفقات. ربح عسكريًّا وأذهل جميع من تابع وراقب، وخسر الوطن هيبة سلطة، وعددًا من الجنود ورجال قوى الأمن باتوا رهائن لدى إرهابيين، لكن وجوه كثر من السياسيين وسلوكهم لم تتبدل: عزائم وولائم وأسفار وتصريحات وتبريرات وتحليلات وتنظيرات وضحكات تملأ الأمكنة والشاشات، ولا من يعير مسألة الخطف تلك اهتمامًا، يليق بتضحيات الجيش الذي ما زال منذ سنوات يسجل البطولات في الميدان، ويتلقى في الوقت نفسه، الطعنة السياسية تلو الطعنة.
فجأة، تمنح السعودية مليار دولار للجيش اللبناني، من أجل محاربة الإرهاب، وفي صلبه، طبعًا، داعش. لكن المملكة، وغيرها من الدول في العالم والمنطقة، ما زالت تدعم من يحارب في سوريا لإسقاط الرئيس بشار الأسد.
فجأة، وفي خضم هذه المخاطر، عاد رئيس الحكومة السابق سعدالدين الحريري إلى لبنان، بعد غياب اختياري دام ثلاث سنوات. فهل تعني عودته، وهي محمودة ومرحب بها، زوال الخطر عنه، وبالتالي عن لبنان؟ أم أن انهيار الوضع وتفلت الشارع الذي يمثله وجنوحه نحو التطرف، جعل تلك العودة، مقرونة بالتوافق على انتخاب مفت، ضرورة لإعادة ترتيب بيت الطائفة، وتمتينه وتعزيزه في مواجهة الدواعش وخطرهم أولًا على ذاك البيت، وبالتالي على كل مكونات لبنان الأخرى؟
فجأة، وبعدما خيل إلى كثيرين أن داعش حققت ما أرادت، باحتلالها الموصل، ووصلها بأجزاء من سوريا، لتعلن دولتها وخلافتها، حتى كشرت أكثر عن إرهابها وقضت على حضارة وتنوع إنساني وثقافي وديني مستمر في العراق منذ مئات السنين، وباتت تهدد بغداد، وكذلك “الدولة” الكردية في العراق، حيث تقوم منذ نحو عقد من الزمن نهضة اقتصادية وعمرانية ومالية جذبت رساميل من مختلف أنحاء العالم، حتى باتت أربيل، عاصمة تلك “الدولة”، قبلة أنظار المستثمرين.
فجأة، وحيال الأخبار عن الفظائع التي ترتكبها داعش حيثما حلت، ووفرة وسائل الإعلام ووسائلها المتطورة التي تنقل الحدث من وكر نمل إذا شاءت، من دون أن تغطي، حتى الساعة، ولو حدثَ تهجير واحدًا أو صورة لمقبرة جماعية، أو لقطة لخط بشري هارب من إجرام داعش حافيًا جائعًا معدمًا قلقًا على المصير والغد… فجأة تدخلت أميركا وقصفت مواقع لداعش، وحجتها الحفاظ على مصالحها، ليس إلا. أما قيمة الإنسان والحفاظ على التنوع الحضاري الذي يكاد الشرق يخلو منه، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، فبضاعة كاسدة لم تعد رائجة في سوق الإدارة الأميركية، لا بل باتت كذبة مفضوحة.
فجأة وألف فجأة وفجأة. شهرزاد الحكاية سيدة طيبة منعت، برواياتها الليلية، شهريار الملك من قتل فتاة عذراء كل ليلة، حتى أنجبت منه ولدًا. أما شهرزاد الجديدة، أي الولايات المتحدة، فهي أشبه بالساحرة الشريرة في أفلام هوليوود، وتريد، على مسمع من شهريارييها حكام الغرب وبعض العرب، أن تقول إنها سيدة اللعبة. لا تقبل أن يربح أحد عليها، ولو اعتمدت سياسة انكفاء لترتيب وضعها الداخلي بعد سلسلة الهزائم والويلات التي منيت بها، فتغاضت عن ارتكابات داعش، لتكسب ورقة ضغط على من يخشى تلك المنظومة اللاإنسانية، ممن تفاوضهم أو تواجههم، ولاسيما روسيا وإيران، وتحقق بالتالي نوعًا من التوازن الميداني، لا يجعلها تخسر، وإن لم تكن الرابحة الوحيدة.
بعد الفوضى الخلاقة، جاء دور القتل الخلاق… حتى تأتي مفاوضات أميركا مع خصومها أمرًا كان مفعولًا.
وكان يا ما كان، في حاضر الزمان، أن شرقًا هو مهد الحضارات والأديان، ومن ضمنه لبنان، يتسلى بالدم والدموع، في انتظار أن يفرغ الأميركان من حسابات الربح والخسارة، في الميزان.
حبيب يونس