رادار نيوز – تنام قانا على مجزرة، وتفيق على أخرى… وبينهما يعيد التاريخ نفسه: الموت والدم، وخمرة السيد المسيح (ع) الذي انتزعه من مغارة الغضب… لبناً للحياة. بين نيسان وتموز يذهب الزمن هدراً أو لنقل إنهما يتآمران على وقف تدرجنا المستقبلي.
لنقل أيضاً إن دم قانا الذي لا ينضب، ينفخ النداء استغاثة، بينما السراب يلف الصحارى العربية العظمى. كيف لقانا أن تحتكر دمها. إنهما تراجيديا اغريقية. ترى هل هو الزمن الذي يغادرنا، ام دورة دم الحياة؟ لا فرق، فهذا الوطن المدهش، بموت الاطفال والأرحام، يتلقى الموت من حزن عاملي عتيق، شاء قدره أن يضعه على منصة الشهادة، وعلى تكرارها هناك ألم مستجدّ يحاكي ماضينا.
هل نحن نعيش في العدم… في عالم يجري وافر الأطراف… من دون حدود ترتجي؟ ثم أما آن الآوان لهذا الفارس ان يترجّل ويستريح؟ إنها مفارقة… أن ندفع وحدنا ثمن ارث تاريخي هرب منه صانعوه، وتركونا في قانا الجليل نسبح في دم أطفالنا بدل هدهدة تستبق الزمن لإحياء حلم جميل مات في دواخلهم، ولكن حاولوا على الأقل أن يبعثوه في رؤى… حلم، أطفالهم،
ليدركوا مستقبلاً كان على الدوام يسقط تحت نير العقب الحديدية. حسناً… ليكن قدر أطفال قانا، أن يذهبوا الى صمت أبدي، وخلفهم ملاعب كانوا يصبون إليها. حسناً… النساء اللواتي ذهبن إلى موتهن، فيما لا تزال الأثداء تدرّ الحياة. او لم نعش في زمن مغتصَب، باسم ديموقراطية جديدة تتوسّل إلغاء الإنسان من تقويمها. قانا مجدداً تتنفّض من ذاكرة المقابر الجماعية، من عيون الاطفال البريئة التي تعقبت حلماً لم يصل. هي ذي قانا، اليوم كما بالأمس تدعونا لتلمس غدٍ قد يغيب طويلاً، اذا ما استلهمنا لغة الدمار الشامل التي تفرض على وطن شعاره أن يعيش بسلام، فما كان عليه إلا أن يدفع ضريبة استرجاعية، تعيدنا الى بعد “توراتي”: وفي البدء كان الدم. مجزرة قانا الجديدة…
زمن جديد يضاف إلى ما عهدناه لسجل ارتوائي لا يرى في الضحايا الابرياء إلا حطباً يؤجج نيران الحقد المستعرة، من شمال يفترض أن يكون في هوى القلب العربي قبل أن تتهاوى علينا الهزائم التي اخترناها سلفاً من دون ادراك ان هناك نافذةً مشرفة مازالت تتلهف للضوء. ايضاً انها مفارقة.
هذه الـ “قانا” البلدة الصغيرة التي تتعرّش على إطلالة حب لمدينة صور لا ينقصها اليوم، سوى ان تثقب ذاكرة وحضارة دول على امتداد الجغرافيا، لتقول لهم: قولوا ما تشاؤون، لكننا سنبقي أيدينا على الزناد سواء ذرفنا الدمع أو الدم، فالحزن والوداع المؤلم هو قدرنا، على بُعد من طرف آخر يجاهد أن يحسبنا ذرى قمح تحت وهج آب. تآخى الجنوب مع قدر فرض عليه قسراً… ليكون الوحيد في المواجهة، ونحن جميعاً لا نتهرّب من هذا القدر، لإيماننا ان الحرية… الكرامة… الانسان فقط من يبني الحلم الذي نتبعه. تنام قانا على مجزرة، وتفيق على سلسلة متراصة من شهداء لا تصل أسماؤهم الا كأرقام لمحافل القرار.
ولكن بالنسبة الينا نحن الذين نداوي الجرح بجرح أعمق، لن نتغافى عن تعميقه أكثر من اللازم، اذا ما كان ذلك ثمناً للحرية. إن الحرية ليست حكراً على احد، فراحات اليد التي تندفع نحو ينبوع ماء، لا بدّ للأكف أن تنهل من راحتيها جرعة لقتل العطش. واستئناف المسيرة.
