رادار نيوز – عماد جانبيه
1. ما الذي دفعك إلى الاهتمام بالشعر الحديث وشعراء الحداثة في أعمالك النّقدية؟
النقد هو الذي يكشف معالم الجمال والإبداع في النص الشعري وقد كان للنقد سلطته الأدبية منذ العصر الجاهلي حين كان النابغة والأعشى يفاضل بين الشعراء. وعلى هذا الأساس اختيرت المعلقات كأجود النماذج الشعرية التي أقرّها النقد. وقد كان كتاب ابن سلام الجمحي “طبقات فحول الشعراء” أهمّ كتاب في علم الشعر والشاعر. وعرف النقد العربي علماء في نقد الشعر كقدامة بن جعفر والآمدي والعسكري والجرجاني والقرطاجني. أمّا مصطلح الحداثة والتحديث فهي من المصطلحات الواردة من أوروبا. وقد تأثّر الشعر العربي بالحركة التّحديثية الأوروبية والأمريكية. فقد اهتمّت حركة “أبوللو” بالشعر الحديث، وذهبت به إلى أُفق أعمق متجاوز لشعر “النّهضة”. ومع حركة “شعر” عرف الشعر بنية جديدة للقصيدة تغيّرت فيها الرّؤية إلى الشعر عند الشاعر العربي المعاصر، بعد أن انفتح الشعر العربي على الشعر العالمي وتحوّلاته الفكرية والفلسفية. وقد استدعى التّحديث الشعري مسألة طرح الأجناس الشعرية التي عرفتها القصيدة العربية عن طريق الترجمة التي تبقى من أهمّ العوامل التي قرّبت الشعر من النّثر. بالإضافة إلى مفهوم الكتابة الجديدة الذي تنتفي فيه الحدود بين الأجناس الشعرية والكتابية والتي خلخلت التّقليد والموروث في الثقافة الشعرية العربية. ولدينا العديد من النّماذج الشعرية لكبار الشعراء الذين جاءت أشعارهم مسكونة بهاجس الحداثة والحرية والثقافة، فكان شعرهم فضاء إنسانياً فكرياً رحباً.
2. كيف تحدّدين خصوصية الكتابة الشعرية الحديثة؟
الكتابة الشعرية الجديدة سفر تتداخل فيه أشكال وألوان متعدّدة تستدعي قراءة مفتوحة مُتجاوَزة للمعتاد والمألوف. فالشعر الحديث منفتح على أسئلة المستقبل ويلامس التّراث والماضي والتاريخ بشكل جديد. وشعراء الحداثة هم الذين منحوا قيمة فنّية كبيرة برؤية معاصرة للشعر العربي القديم، وقدّموه بشكل فنّي جديد. وهذا الشعر عند رموز الحداثة الكبار يبني قاعدته على الفكر والفلسفة، إذ لا انفصال فيه بين المعرفة والثقافة عموماً وهذا معيار كونيته. فهو شعر يتجاوز حدود اللغة ويخرق حدود الاستعارة والمجاز، كما أنه شعر منفتح على الفن بكل ألوانه وأشكاله.
وما طرحته في كتاب “الكتابة والأجناس” من محاور جمالية راقية للشعر العربي الحديث في تفاعله الخلاّق المنفتح على الفنّ وعلى الوسائط الرّقمية جدير بالمناقشة النّقدية الهادفة. فالقصيدة تُكتب بحركة الكاميرا وبالحركة الدّالّة وبالنوتات الموسيقية وبالرسم وبالألوان دون أن تفقد قيمتها الشعرية. والفن الرّاقي يلفت أنظار الناس إلى الحقيقة الجوهرية للأشياء التي يتغاضى عنها المجتمع.
وقد أنتج شعراؤنا الكبار أعمالاً شعرية كبيرة تحتاج إلى قارئ بثقافة جديدة متشبّعة بحِسّ الإبداع والمعرفة بالشعر وبثقافة الصّورة والفنّ. فجمالية الشعر وإبداعيته رهينة بالمستوى الفكري والمعرفي لقارئه. ويمكن أن نقول إن الشعر الحديث يصنع قارئه. ولو أنه من الصعوبة بمكان تأسيس شعر حديث في مجتمعات لا ثقافية، لأن الأسئلة التي يثيرها هؤلاء الشعراء تأتي من المستقبل. والعقلية العربية في مجملها لا زالت تقدّس الماضي وترفض قيم الحوار والتساؤل وإثارة الأسئلة العميقة حول الثقافة والتراث والإبداع والحياة عموماً.
3. ما المعيار الذي اتّبعتِه في تناولك لمفهوم الكتابة عند شعراء الحداثة؟ ولماذا تركيزكِ على بيانات وتجارب أدونيس ومحمد بنيس وقاسم حداد دون غيرها من البيانات والتجارب؟
عرف المشهد الشعري العربي الحديث والمعاصر العديد من البيانات الشعرية في حقب زمانية متفاوتة ومختلفة. كبيان خليل مطران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وأنسي الحاج وبدر شاكر السياب وغيرهم. وهي انعكاس للحياة الثقافية التّحديثية التي يعيشها المجتمع العربي، لما عرفته القصيدة العربية من تحوّلات مهمّة في انفتاحها على الشعر العالمي واتّجاهاته ومدارسه. كل ذلك ولّد أجناساً وألواناً من الكتابة الشعرية العربية الجديدة والتي جاءت نتيجة هذا التبدّل والتحوّل في الوعي الفكري والفلسفي والجمالي. ممّا استدعى محاولة فهم هذه التحوّلات العميقة في مفاهيم الشعر العربي في ضوء شعريات العالم. والبيانات الشعرية تعكس القلق الشعري للذّات الشاعرة، وتُبشّر بولادة لونٍ جديد من الكتابة الشعرية، استدعت توضيح إطارها النّظري وآليات اشتغالها داخل المنجز الإبداعي. كما أنها ولّدت العديد من الأسئلة المعرفية المتعلّقة بولادة خطاب شعري جديد مغاير في مستقبل الشعر وفتوحاته الجمالية والكونية في مغامرة القصيدة اللانهائية في أرض اللغة والخيال والرّؤية إلى الذّات والأشياء والعالم. وجاء اهتمامي بكتاب “البيانات” الذي يضمّ بيانات كل من أدونيس ومحمد بنيس وقاسم حداد بالاشتراك مع أمين صالح باعتبار هذه البيانات بيانات تأسيسية ومؤسّسَة لمفهوم وحدث الكتابة الجديدة في الثقافة العربية المعاصرة. إنها بيانات تنتصر لسلطة الكتابة وتعصف بحدودها الجغرافية وهو انتصارٌ للزمن المعرفي وزمن لحظة الكتابة.
4. هل الحداثة الشعرية تجربة أفراد؟
الحداثة العربية تجربة أفراد على مستوى الشعر فهؤلاء الشعراء الكبار، الذين قدّموا أنفسهم في البيانات كمنظّرين ونقّاد امتازوا بتجاربهم الكونية المتفرّدة والمختلفة، هم أصحاب مشروع فكري له الفضل الكبير في إعادة النّظر إلى الموروث الشعري برؤية جديدة متحرّرة من أي انتماء، وتحمل أسئلة معرفية مستقبلية عميقة تغيّر النّظرة إلى الإنسان والواقع والوجود. فساهموا مساهمة كبيرة في تغيير معنى الشعر في العصر الحديث.
فقد دعا كلٌّ من الشاعر قاسم حداد والقاص والسينمائي أمين صالح إلى أفق كتابة جديدة، حيث جنون الكتابة ولانهائيتها بعيداً عن قداسة الماضي لتحقيق حلم كتابة جديدة متوهّجة تحمل رؤية مستقبلية إنسانية للكشف عن المجهول في مغامرة الكتابة التي تتشكّل فيها علاقة الشاعر باللّغة والواقع. والشعر عند قاسم حداد حقيقة وكينونة. فبالإضافة إلى أنه شاعر كبير فهو كذلك فنّان كبير، تمتاز أعماله الشعرية بفنّية عالية. وقد تجاوزت لغة التّعبير عنده إلى البناء والتشكيل. ومعظم آرائه النقدية نجدها في أشعاره وحواراته. كما أن الكتابة عند قاسم حداد استغوارٌ للمجهول وتجاوزٌ لكل الأشكال الموروثة. وهو من أكبر الشعراء الذين أدخلوا الحاسّة البصرية بفنّية غير معهودة في نسيج العمل الشعري.
أما أدونيس ومحمد بنيس فلهما إنجازات تنظيرية غزيرة و كبيرة لا يمكن الاستغناء عنها في قراءة الحداثة الشعرية العربية وتحوّلاتها المعرفية. فعلى سبيل المثال كتاب أدونيس “الثابت والمتحول”، بأجزائه الأربعة، وكتاب محمد بنيس “الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها”، بأجزائه الأربعة، من أهمّ الكتب التّنظيرية الحديثة في علم الشعر والشاعر الحديث. فهي من الكتب العلمية المضيئة التي تقدّم لنا رؤية جديدة منفتحة لقراءة الحداثة الشعرية العربية تكون فيها القصيدة مغامرة في المجهول واللانهائي. إن أدونيس ومحمد بنيس مدرستان كبيرتان متميِّزتان في الشعرية العربية الحديثة، عملا على تكوين العديد من النّقّاد والباحثين في العالم العربي وغير العربي، كما قدّما أعمالاً شعرية كبيرة هي من عيون الشعر العربي.
ومع ذلك فالشعراء موضع الدراسة في هذا الكتاب يحتفي بهم الغرب أكثر ممّا احتفت بهم بلدانهم، ولهم حضور قوي على الصعيد العالمي. والشعر عندهم مرتبط بالفكر والمعرفة والفلسفة، وبالفن كذلك الذي هو رمزٌ للتآخي والحوار والانفتاح. وقد قدّموا كتباً شعرية فنّية فريدة ومتميّزة. ولذلك حظي هؤلاء الشعراء بتقدير كبير. فهم شعراء ببعد عالمي، امتازوا بمواقفهم الشعرية الجديدة والمختلفة عن كلّ ما هو سائد. كما حصدوا جوائز عالمية في حضارات شعرية عريقة. مع ذلك لا نجد لأعمالهم جمهوراً كبيراً في وطننا العربي الذي لم يتعوّد على قراءة هذه الأعمال الباذخة القادمة من مستقبل الأعمال الشعرية لهؤلاء الشعراء.
5. معنى هذا أن الشعر الحديث هو للقرن القادم؟
الأعمال الشعرية الكبيرة هي للمستقبل الشعري. ولشعرائنا الكبار أعمال شعرية تتفوّق على إبداعات الغرب. وفي مجتمعنا العربي ليس لدينا نقد يواكب هذه الأعمال. لأننا نكتب الشعر أكثر ممّا نقرأه. والشعر الحديث يحتاج في عالمنا العربي إلى قراءة حديثة ودراسات جادّة وعميقة ومتطوِّرة لأن الشعراء الكبار هم أيضاً مثقّفون كبار. وأشعارهم تسعى أن تكون كوناً. فكيف يمكن أن نصطحبهم في هذا السفر الذي يوصلنا دائماً إلى سفر أبعد.
إن لغة الشعر الحديث لغة جديدة متجاوزة أحياناً لمنطق الاستعارة والمجاز. فهي ثورة على الصيغ اللغوية وعلى البلاغة التقليدية. وهذا من سمة الشعر العظيم الذي يتجاوز حدود اللغة وحدود الفهم البسيط، وكونيته معيار جودته وجماليته. فهذه الأعمال تقدّم رؤية إنسانية حضارية للحياة والوجود بوعي فكري وجمالي بعيداً عن أي معنى وظيفي سواء كان دينياً أو سياسياً. وهذا سرّ استمراريته لأنه لا يموت بموت المناسبة. فالشعر يغيّر ما لم تستطع أن تغيّره الأنظمة، لأنه ضدّ العنف وضدّ الفكر الدّيني السلطوي، ويؤمن بحرّية الفرد. فهو القادر على تغيير فهمنا للواقع لأنه يعلّمنا كيف نفهم معنى الحياة. وهؤلاء الشعراء اتّخذوا من الشعر حياة حقيقية. إلا أن المؤسّسة الثقافية العربية لازالت في عالمنا العربي تعتبر الشعر وظيفة، فيطغى فيها الحزبي والسياسي على حساب الثقافي.
6. هل الشعر الحديث يحتاج إلى قراءة جديدة؟
تنوّعت أشكال الاحتفال بتلقّي الشعر بحسب البيئات والمجتمعات والجنسيات قديماً وحديثاً. والتلقّي في الشعر العربي الحديث لم يعد يقتصر على الإنشاد والسّماع، خصوصاَ بعد ما عرفه عصرنا من وسائل الاتّصال الحديثة. وانفتاح النص الشعري على الفنون وعلى شعريات العالم. كل ذلك يحتاج، كما سبقت الإشارة، إلى قارئ خلاّق نظراً للقيمة السّامية والجوهر العميق الذي تمثّله هذه الأعمال، وكذلك للدور الكبير الذي لعبه كبار الشعراء العرب في تطوير الحركة الشعرية العربية الحديثة ليحتلّ الشعر العربي مكانته المرموقة والسّامية على خارطة الشعر الإنساني العالمي. ولهذا حاولت في هذه الدراسة، التي هي بمثابة سفر في الشعرية العربية في أهمّ مراحلها التاريخية، الدّعوة إلى قراءة جديدة لشعرنا الحديث والمعاصر. أظنّ أنه من اللازم على أدبائنا ومؤسّساتنا الثقافية العربية الاحتفاء بالمنجزات والأعمال الشعرية الكبيرة لشعرائنا الذين أسّسوا لحداثة شعرية عربية جديدة، وأن يصبح تكريمهم والاحتفاء بأعمالهم تقليداً مكرّساً في ثقافتنا العربية، كما هو في الشعريات العالمية. وأن نلتفت أيضاً إلى دراسة أعمالهم الشعرية بعقلية جديدة وقراءة معاصرة منفتحة، يحضر فيها إلى جانب الناقد، الفنّان التشكيلي والمسرحي والسينمائي والموسيقي… وقد نجحت هذه الأعمال الشعرية في خلق هذا التّفاعل الرّائع والتّصالح بين الأكوان من خلال هذا الحوار الجميل بين القيم السّامية للقصيدة والفنّ الراقي.