رادار نيوز – دخل الصيدلية، يتنقل على رؤوس أصابعه، رأسه مشدود إلى الأعلى، صدره “منفوخ” إلى الأمام، أكتافه مرفوعة، سواعده منفرجة على جانبيه بعيداً عن جسده، تئنان تحت ثقل عضلات ضخمة وكأن رأس بطيخ حُشر في كل منهما، حتى يُخيل للناظر إليه أنه سيهوي إلى الخلف..
بدا كرجل آلي أخطِئت برمجته..
عموده الفقري ملتوياً.. فالمسدس المتربع على خاصرته من العيار الثقيل..
عنتر زمانه “تعنتر” بزينة الرجال.. ولو رآه عنتر لضرب نفسه بالنعال خجلاً من أشباه الرجال..
يعقد بين عينيه حتى كاد حاجباه يتصافحا، للدلالة على هيبته التي تبدو ضيقة عليه.
أزرار قميصه العليا مفتوحة، تاركة مساحة واسعة لعرض سلسال يحمل شعار أحد المذاهب يتدلى من رقبته..
لا تخف يا هذا، الحبل في رقبتك متين.. دفعت ثمنه وطنك وحضارتك، وأولادك وأحفادك وأجيال لم تولد بعد!..
علاَّقة مفاتيح في يده، ما انفكَّ “يلوّح” بها وكأنها جهاز يمد دماغه ودورته الدموية بالطاقة..
في ذيلها شعار حزب وصورة زعيم، لا يكاد نظر المواطن يقع عليها حتى يتجسد أمامه تاريخ وإنجازات هذا المدعو “زعيم” بكل صورها البشعة.. لتسقط فوق رأسه، حجارة من جدار الوطن “المخلَّع”.
اقترب من الصيدلي، رمى أمامه علبة دواء فارغة طالبا علبة مثلها، لكن الصيدلي لم يلتفت كونه منشغلاً مع آخر يصرف له وصفة الدواء..
علاَّقة المفاتيح ارتفعت وتيرة خشخشتها، تهتز دون توقف، فالغضب أخذ منه مأخذاً عظيماً..
“كيف ينشغل الصيدلي بزبون آخر ويهمل شخصية خطيرة مثله!”..
رمق الصيدلي بنظرة وعيد، زفر زفرة عميقة.. وانتفض زاجراً بصوت جهوري وكأن الشيطان متربع على كتفيه ويركله على صدره بقدميه:
ـ هات الدواء بسرعة يا رجل.. “وقت الناس مش ملك أبوك!”..
ناوله الصيدلي علبة الدواء المطلوبة بسرعة لينتهي منه، دون أن يعلق بكلمة، فهو يعرف جيداً هذا النوع من المخلوقات..
ما كاد يرى تسعيرتها حتى زعق كأن قنبلة صوتية انفجرت في حلقه..
ـ “ليش سعرها ارتفع هالقد.. شو الشغلة سرقة؟”.. تضعون الأسعار على هواكم وتمتصون دم المريض.
رمقه الصيدلي بنظرة ساخرة من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، وتوقف عند علاقة المفاتيح قائلا:
ـ “كل شي ارتفع سعروا، روح اسأل حضرة زعيمك، اللي هو من أصحاب القرار بالحكومة، عن سبب الغلاء!”.
ـ إياك أن تتلفظ باسم زعيمي بالسوء.. أفهمت!.. إنه بعد الله .. هو شرفنا وكرامتنا، ولولاه ما بقينا ولا بقي البلد.
قهقه الصيدلي حد البكاء مصفقاً:
ـ طبعاً طبعاً يا أخي!.. أليس هو العامود الذي رفع السماء كي لا تسقط على رؤوس البشر!.
ـ لا تجعلني أفقد أعصابي أيها الكافر الملحد!.. شعب غبي لا يعرف معنى الدين والمذهب، ولا معنى الوطنية.
ـ طالما زعيمك هو الله بالنسبة لك ولأمثالك، وقد حشركم في قاع جيبه الصغير، لما لا يؤمن لكم الدواء والحياة الكريمة من تلك الجيب التي تفيض من دم وأموال الشعب المسكين؟..
ألف مبارك عليك بشحمه ولحمه “وبعره”.. صحة على قلبك أشبع به.
أثار غريزته كلام الصيدلي، فوضع يده على خاصرته متفقداً مصدر رجولته:
ـ أيها النذل.. يبدو أنك لا تعرف مع من تتكلم؟.. وترغب باللعب بدمك!.
ـ أعرف جيداً مع من أتكلم، لا داعي للتعريف عن نفسك.. الكتاب يُقرأ من عنوانه.. “زلمة أمير حرب”.. زلمة رئيس حزب طائفي من الأذناب التي تُغرق البلد.
نظرة تتقد شراً كادت تُخرج عينا “عنتر زمانه” من محجريهما أصابت الصيدلي بالرعب فتمتم في سرَّه:
اسكت يا صبي، إكسر الشر.. زينة الرجال بيد هكذا مخلوقات يجرح.. يبدو أن زعيمه أقام له اليوم مأدبة علف محترمة بخطاب رنان!..
حاول ترطيب الجو، انطلاقاً من مقولة: “اليد اللي ما بتقدر تقطعها بوسها، وادعي عليها بالكسر..
فقال بلهجة هادئة بعض الشيء، فقدت الكثير من الغضب مقفلاً الطريق على هذا الجدل العقيم:
– تكرم عينك.. سأحاول أن أحسم لك من السعر ما استطعت.
لكن عنترة هذا، امتدت يديه إلى جيوبه بحثاً عن ثمن الدواء..
الوجه المعلق في علاَّقة المفاتيح يرافقه في البحث، ينتقل معه من جيوب المحفظة، إلى الجيوب الأمامية والخلفية، وجيب القميص، ومع كل جيب فارغ تتسع ابتسامته ويقهقه فرحاً بوصوله إلى الهدف المنشود.
أثمرت نتيجة البحث عن العثور على نصف الثمن..
مد يده بالمال إلى الصيدلي قائلاً بصوت انخفض عدة درجات عن السابق:
– إبني مريض جداً وإن لم أعطه هذا الدواء سيموت.. سآتيك ببقية الثمن غداً.
أجاب الصيدلي:
– ليست مشكلتي يا أخي.. أنا موظف هنا ولست صاحب الصيدلية.
طأطأ الرجل المنفوخ رأسه وكأن هموم الدنيا سقطت عليه:
ـ أرجوك.. أنا أعمل ليل نهار وأولادي لا يشبعون الطعام.. متطلبات الحياة كثيرة، تفوق احتمال عامل بسيط مثلي.. ما في جيبي لا يكفي لشراء طعام لهذا اليوم.. فكيف لي بشراء الأدوية الغالية الثمن؟!..
ـ أنت عاجز عن تأمين الطعام والدواء والمدرسة والمشفى لأولادك، وتتزين بهذا المسدس الغالي الثمن!..
– ومن قال لك أني دفعت ثمنه؟..
إنه هدية ثمينة من الزعيم تقديراً لنضالي وجهودي في الشارع.. وعلى دعم مسيرته الوطنية، والسهر على أمنه وحياته..
وأردف مفاخراً: إنه يفضلني عن كل تابعيه.
وبسرعة البرق نسي ابنه والدواء وما هو فيه، أخذه وهم العظمة، فامتشق هاتفه قائلاً بفرح الأطفال “بخرجية” العيد:
ـ انظر إلى صوري معه، أنظر كيف يلتصق بي، أنظر إلى يده كيف تحيط كتفي.. يا له من إنسان متواضع يحب الناس، لم تجلب الحياة مثيلاً له.. ولن تأتي.
لجم الصيدلي لسانه بصعوبة حتى كاد يختنق بما تكوم من حجارة داخل حنجرته، أراد أن يرشق بها رأس هذا الغبي الفارغ، الذي يهلل لصورة تجمعه مع قاتله وقاتل أولاده.
ـ نضالك إذن يا عزيزي ورفيقي بالمعاناة، يستحق مدفع وليس مسدس.. تفضل يا أخي ادفع وخذ الدواء لدي عمل.
انقلب المارد فجأة إلى إنسان هرم محطم، تهاوى على أقرب كرسي، علبة الدواء مخرز ثقب رأسه، كادت كلمات الصيدلي تتسرب إلى داخله، تحسس رأسه، لا رأس له، هناك صدى وعفن أزمنة سحيقة..
تلمس قلبه، فانزلقت نبضاته كفقاقيع جحيم فوق أفق يحترق بلهاث الدجالين. قطرات من العرق انحدرت من جبينه، دخل ملحها وأحرق عينيه.. حاول إيقافها، مسحها باليد المتشبثة بعلاقة المفاتيح.. التقت عيناه بصورة الزعيم المفدى.. رآه يرمقه بنظرة غاضبة:
“أهكذا تخذل إلهك يا رجل!.. أنسيت أننا رجال الماضي والحاضر!.. وأننا من سيصنع التاريخ.. أهكذا تضعف!.. يا له من عار الحقته بي وأنت أحد رجالي الكبار؟”..
انتفض من مكانه، عاد الهواء الملوث يضخ في شرايينه، انتفخ من جديد.. وبلمح البصر خطف علبة الدواء دون الالتفات إلى الصيدلي، أو سماع شتائمه..
سار ببطء.. تمايل خطوة إلى اليمين وخطوة إلى اليسار.. أكمل طريقه باتجاه جنازة .. ليشارك في تشييع وطن مسلوب.