رادار نيوز – كانت إحدى لعبات طفولتنا المحببة. نرسم بالطبشور على الأرض دائرة، ونقسمها مثلثات، نكتب داخل كل منها اسم دولة، وكل منا يضع رجله داخل المثلث، ليصرخ أحدنا، صاحب الدَّور، وفي بطء شديد: “وقع الحرب في…”!!!
نسيت تفاصيل اللعبة، ولكن لاحظت الآن أننا كنا، على طريقة أجدادنا، نذكِّر الحرب، لظنٍّ منَّا ربما أن النساء مسالمات، وأن الحرب يصنعها ويخوضها الرجال وحدهم.
وقبل بلوغنا سن الرشد، “وقع الحرب (فعلًا لا لعبة) في…” لبنان، وحل الرصاص محل الطبشور، واحتل الموت أماكن وزوايا كانت مسرحًا لضحكات الأطفال، وبات التشرد والتهجير والاغتراب بديلًا من خطوات صغيرة نعدوها من ضمن قواعد لعبتنا الطفولية. أما الفرح الذي كان يغمرنا فتحول قلقًا وآمالًا مشرعة الجراح.
لم نكن وحدنا… فقد “وقع الحرب في…” دول منطقتنا، بمآسيها وحساباتها، ولم نعرف راحة وسلمًا إلا في أويقات قليلة، حتى اندلعت حروب المسمى ربيعًا عربيًّا، وآخر فصوله المستمرة في الجارة سوريا، مع ما تخلفه من تأثير وارتدادات وانعكاسات على الوضع في لبنان.
عادت إلي صورة لعبة الطفولة، بعد الغارة الإسرائيلية على دمشق، وهي الثانية خلال ثلاثة أشهر. فهل “وقع الحرب في…” المنطقة بأكملها؟
جاء توقيت التدخل الإسرائيلي في مرحلة حاسمة من الأزمة السورية. فبعد سنتين وشهرين على اندلاعها، لم تفلح كل الأساليب والضغوط والتدخلات في إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، لا بل بدأ هذا النظام أخيرًا يحقق مكاسب ميدانية في وجه معارضيه، ويقترب من حسم الأمور في أكثر من منطقة، بما يتيح له ربط المدن الكبرى بعضها ببعض، وسد المنافذ بين لبنان وسوريا على طول الحدود من البقاع إلى الشمال، لينصرف بعد ذلك إلى معارك مماثلة في المدن المتاخمة لتركيا والأردن والعراق. حتى إذا ما حان موعد القمة المرتقبة بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حزيران المقبل، يوفر النظام السوري لحليفه الروسي أوراق تفاوض رابحة، تجعل الأميركي يقلع عن الضغط لإسقاط الأسد أو حتى للمطالبة به، ويرضخ لتسوية، بقاءُ الرئيس السوري شرط حتميّ لها، ليكون أسوأ ما يمكن أن يصيبه، هو أن يرسب في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى العام المقبل.
هذه اللقمة التي وصلت إلى فم الأسد وحليفه الدب الروسي، انقضت عليها إسرائيل لتخطفها. فهددت بذلك أولًا بتغيير قواعد اللعبة وتوسيع إطارها، لعلها تضغط من أجل فرض حل، بعد أزمة إقليمية، يكون لبنان إحدى ساحاتها، تتحول أزمة عالمية بين معسكري الغرب ودول البريكس، يكون من ضمنه (أي الحل) جلب الأسد ضعيفًا إلى طاولة المفاوضات في الشرق الأوسط. وأعطت إسرائيل ثانيًا المسلحين المعارضين للنظام السوري، بعد سلسلة انتكاساتهم، جرعة معنويات جعلتهم يشنون هجمات على دمشق، غداة تنفيذها غارتها. واستنفرت ثالثًا روسيا وإيران وحزب الله في لبنان. وحولت رابعًا أنظار الداخل الإسرائيلي عن مشكلات وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية يعانيها. وفضحت خامسًا، “جامعة العرب” ودول “ربيعهم”، بما يذكر بصرخة “الأستاذ نزار” في مسرحية “فيلم أميركي طويل” عن “الخندق الواحد” الذي يضم من يفترض بهم أنهم أعداء. معه حق “شو هـ الخندق هيدا؟”.
شخصيًّا أشك في أن تتطور الأزمة إلى حرب إقليمية، لأن نتائجها ليست محسومة بتحقيق نصر لأحد، وأظن أن في الأمر مجرد إلهاء للنظام السوري عن استكمال اندفاعته، وتأخيرًا لها، خصوصًا أن إسرائيل لم تنفذ غارتها من تلقائها، بل برضا الولايات المتحدة، إن لم يكن بأمر منها، لإضعاف ورقة التفاوض الروسية خلال قمة حزيران، بعد فشل محاولاتها السابقة، مباشرة أو بالواسطة، في تحقيق مكسب بهذا الحجم. فتحدث واشنطن توازنًا مع موسكو، بما يطيل أكثر أمد الحرب في سوريا.
كم تشبه هذه اللعبة الدولية لعبة طفولتنا… مع فارق الدم والدمار والدمع والقلق. وفي حين ترسم الدول على خرائط الشرق الأوسط، خطوط مصالحها، لعلَّ طفلًا سوريًّا يرسم، الآن، بالطبشور على الأرض دائرة يقسمها مثلثات، ويدعو أترابه إلى اللعب، ويصرخ فيهم “وقع الحرب في…”. فعسى رصاصة القنَّاص تخطئه!