رادار نيوز – ليست خطيئتنا، فحسب، كلبنانيين، أننا ارتضينا لأنفسنا، منذ العام 1926، نظام حكم هجينًا، مدنيًّا علمانيًّا بدستوره (لولا المادة الـ95 منه التي تنص على توزيع الوظائف طائفيًّا… موقتًا)، وطائفيًّا بأعرافه، وما زلنا إلى اليوم نعاني تبعاته، لا بل ستتضاعف معاناتنا ما دامت الكلمة الفصل للمذهبية، حتى من ضمن المذهب الواحد.
ولا خطيئتنا، فحسب، أننا عندما عدَّلنا الدستور، لننتقل – قال – إلى الجمهورية الثانية، ارتضينا مجبرين، مخيرين بين استمرار لغة المدفع ووقف حمام الدم، “اتفاقًا” يحمل بذور موته في جيناته، لأنه، أولًا، عزز الطائفية، بدفع الخطاب السياسي إلى مذهبية مقيتة؛ ولأن فيه، ثانيًا، من الغوامض والإشكالات والتفسيرات المتناقضة ما لا يجعله صالحًا للحكم؛ ولأن الهدف منه، ثالثًا، لم يكن إصلاحًا أو رؤية مستقبلية، بمقدار ما كان جعلَ لبنان قالب حلوى لقوى دولية وإقليمية يتقاسمونه ويلتذذون بطعمه، ولم ينل منه السياسيون المحليون والمحظيون، سوى الفتات، وهم راضون قانعون يتسابقون على منصب هنا وصفقة هناك وارتهان وتزلم هنالك، وأورث الشعب مزرعة وفسادًا وهجرة وفقرًا وتعطلًا من العمل ودينًا بمليارات الدولارات هيهات أن نفيه.
إنما خطيئتنا العظيمة أيضًا، هي أن بعدما تحرر لبنان من الجيوش الغريبة، واستعاد سيادته وحريته واستقلاله، لم ينكب أي من أفرقائه السياسيين، أو أحزابه أو جماعاته، إلَّا في ندر، على إجراء مراجعة نقدية كل لخطابه وخطابه ومفاهيمه إبان الحرب (1975-1990)، أو خلال ما سمي مرحلة السلم الأهلي، التي كانت بالفعل استمرارًا مبطنًا للحرب (1990 – 2005)، بل تمسكوا بما عدُّوه مُنْزَلًا – أستغفر الله – وتلطوا به وتمترسوا خلفه، فلم يخرجوا من شرانق أسروا أنفسهم فيها، فكادوا يموتون فيها اختناقًا.
ما هو لبنان؟ أوطن أم فندق أم ساح لتصفية الحسابات أم محطة ترانزيت أم ملجأ؟
أهو وطن مستقل ممنوع من الصرف في أسواق التقسيم والإلحاق والتوطين، أم جزء من كل؟ أم لزوم ما لا يلزم؟
ما هويته؟ ألبناني هو وحسب؟ أم عربي؟ وأي عروبة، وقد تجلت أحدث وجوهها بـ”الداعشية”، ما شاء الله؟
من هو عدوه؟ من هو صديقه؟ أين مصلحته في هذا الحلف أو ذاك، أو في هذه العداوة أو تلك؟
ما دوره ووظيفته؟ أدولة قائمة في ذاتها، أم قبائل متناحرة كل منها ينتمي إلى خيار دولي أو إقليمي، ديني أو اجتماعي؟ أَوَمجموعة طوائف تعيش في مستوعب واحد غصبًا عنها، وتنتظر من يتاجر بها، أم نموذج سبق عصره في حياة واحدة بين مكونات مختلفة، بما يجعل منه أمة لا مجرد وطن؟ أوَيسلك الحياد، أم يحشر أنفه في ما لا يعنيه؟
ما مستقبله؟ هل هو الاستمرار في تناتش السلطة والمناصب واقتسامها بين عائلات لم تغب أسماؤها عن كل المجالس النيابية، إلَّا نادرًا، وأحزاب منها ما هو عريق ومنها ما هو حديث؟ أم وضع قانون انتخابات نيابية يلبي تطلعات أهل لبنان وينصفهم ويعدل بينهم؟ وهل هو الحفاظ على سياسة الاستجداء و”من مال الله يا محسنين” أم الانطلاق إلى المبادرة واستثمار ما يكتنزه من ثروات فكرية وطبيعية وسياحية، بما يحصن الاستقلال والقرار الحر، ويخدم الشعب ويوفر له الأمن والأمان والطمأنينة والازدهار؟
أسئلة أساسية، وثمة غيرها الكثير، ولكن من أجاب عنها قبلًا ويجيب عنها اليوم؟ ومن يستطيع أن يوحد الإجابة عنها، وهو يعيد النظر في أدبياته السياسية والفكرية، كي نقبل على الغد، ونحن نقرأ في كتاب واحد، لا يحتمل تأويلات وتفاسير متعددة؟
لم تفت الفرصة بعد. العالم يتغير، والتسوية مقبلة على المنطقة، فهل نستمر نبحث في جنس الملائكة فـ”نروح فرق عملة” في لعبة تغيير الدول؟ أم ينصرف كل حزب وجماعة وفريق إلى مراجعة نقدية على مستواه أولًا، يستخلص منها العبر والنتائج ويحدد الرؤى والتطلعات، ليلتقي الجميع، من ثم، في حوار صريح ينتهي إلى عقد لبناني – لبناني خالص، يؤسس لغد واعد في دولة يليق بها اسمها؟
فلا نكوننَّ كما لاحظ نيتشه أن “الاعتقادات الراسخة عدو الحقيقة، وهي أكثر خطرًا من الأكاذيب”… إلَّا إذا ما زلنا نعتقد أن الكذب ملح الرجال… ونعم الرجال.
بل لنكن كما قال سعيد عقل في إحدى خماسياته:
يشاءُونَني غيرَ نَضْرِ الخيالْ
كما اللَّا ولا عبقريَّ الغدِ
أَبَيْتُ… أنا قُبلةُ الموعدِ
سَكَنْتُ بِلاديَ صنعَ المحالْ
سَأَسْكُنُها بَعْدُ… صُنعَ يدي.
ولا أعرف عن شعب لبنان إلَّا الخيال الخصب والإرادة الصلبة، بل قل ريادة المستحيل…
وإن لم نفعل… ستكون خطيئتنا مميتة، لا عظيمة فحسب.