رادار نيوز – تعددت الأسماء، والمدينة واحدة: من “الفيحاء”، إلى “العاصمة الثانية للبنان”، إلى “مدينة العلم والعلماء”، وأخيرا “مدينة السلام والتقوى”. إنها طرابلس، التي ما إن تطأ قدماك شوارعها وأحياءها، حتى يسترعي انتباهك مشهد لا تراه في منطقة أو مدينة لبنانية أخرى: مسجد ملاصق لكنيسة، ومئذنة مجاورة لجرس، ما يجعل من طرابلس مدينة للألفة والوئام والعيش المشترك، من الطراز الأول. ففي جوار مسجد البرطاسي، يقع مزار السيدة للروم الأرثوذكس، وعلى رأس الشارع المؤدي إلى الجامع المنصوري الكبير، تقع الكنيسة الإنجيلية للبروتستانت، وفي شارع “الضم والفرز”، تجاور مطرانية الروم الأرثوذكس جامع “الرحمن”. وما شارع “مار مارون”، وشارع “الكنائس”، وشارع “الراهبات”، و”حارة السيدة” إلا خير دليل على أجواء المحبة والتلاقي التي عمت المدينة على مر العصور، والاختلاط والتمازج بين أبنائها، بمختلف أديانهم ومذاهبهم.
وتشهد كنائس طرابلس، ككنيسة “مار جرجس” للروم الأرثوذكس، وكنيستي “مار مخايل” و”مار مارون” للموارنة، وكنيسة “مار يوسف” للسريان الكاثوليك، على تاريخ طويل من العيش المشترك والاعتراف بالآخر، بين أبناء المدينة. ففي فترة الحرب الأهلية التي عاشها لبنان، حافظ مسلمو طرابلس على الكنائس في مختلف أحياء المدينة، وتصدوا لأي محاولة اعتداء عليها. وفي منطقة القبة، لم تمس كنيسة “مار مخايل” للموارنة، أو كنيسة اليعاقبة المطلة على السويقة، أو كنيسة “السيدة” في “حارة البرانية” بأي أذى، رغم الأحداث الأليمة التي شهدتها تلك المنطقة ومحيطها، بين عامي 2008 و2014.
وتتميز طرابلس بالعلاقات الودية بين أبنائها، من جميع الطوائف. من الناحية الإجتماعية، يقطن المسلمون والمسيحيون في الحي الواحد، ويمارس كل منهم شعائره الدينية بحرية تامة، ويتشاركون الاحتفال بالأعياد الدينية. ففي فترة عيدي الميلاد ورأس السنة، يشارك المسلمون جيرانهم المسيحيين الاحتفالات، فيزينون بيوتهم ويضعون شجرة الميلاد. وقد ساهمت الجمعيات الخيرية والمؤسسات التربوية والثقافية، التي تحتضن عددا كبيرا من الطلاب المسلمين والمسيحيين، في تمتين أواصر العلاقات بين مختلف شرائح المجتمع الطرابلسي.
من الناحية الثقافية، تشكل كنيسة “مار مارون” خير مثال للتواصل الثقافي، إذ تستقطب قاعة محاضرات هذه الكنيسة كبار المحاضرين، وعددا كبيرا من المهتمين، من مختلف الطوائف والمذاهب، فتسهم، في إبراز الوجه الحضاري والثقافي للمدينة.
أما من الناحية الاقتصادية، فإن عددا كبيرا من المواطنين، من مختلف المناطق، يقصدون أسواق طرابلس بشكل يومي، للتبضع والتزود بحاجياتهم.
المطران ضاهر
واكد متروبوليت طرابلس والشمال للروم الملكيين الكاثوليك المطران ادوار للوكالة الوطنية للاعلام أن “أهل طرابلس مثقفون ومتعلمون، ومن المعيب تشويه الصورة الحقيقية للمدينة”، وقال: “لا شك أن مدينة طرابلس تعرضت اعلاميا لصيت غير حقيقي وغير واقعي، كما وانها تعرضت لمشاكل وانقسامات حزبية داخلية، وكانت هناك معارك سميت بالجولات بين “جبل محسن” و “باب التبانة”. ولكن من خلال معرفتي والسنوات الثلاث التي عشتها في المدينة وبين اهلها، أؤكد أن صورة طرابلس الحقيقية ليست كما صورت لنا حينها، فصورة طرابلس الحقيقية هي هذه التي تم تناقلها في الفترة الاخيرة، واهل طرابلس يعيشون جوا من الالفة والمحبة والمودة والاحترام بين بعضهم البعض”.
أضاف: “هناك العديد من المعايدات المشتركة المتبادلة، فنحن كمسيحيين نشعر في الأعياد الاسلامية بأن العيد عيدنا. وفي المقابل، في أعيادنا لا يتم التقصير لا من جهة الفعاليات او المعايدات السياسية والدينية والاجتماعية وغيرها، ومن المعيب تصوير طرابلس على انها “قندهار”، أو “طورا بورا”. أهل طرابلس معروفون بثقافتهم وعلمهم، فهي مدينة العلم والعلماء، ونعم ان اهل طرابلس متدينون، ونحن نفتخر ان كل اهل طرابلس متدينون، لكن لديهم انفتاحا واحتراما لعقائد الآخر”.
وتابع: “هذه السنة مرت بأعيادها المختلفة، بداية بعيد المولد النبوي الشريف، ثم عيد الميلاد المجيد ورأس السنة، وقد شارك أهل طرابلس بمختلف طوائفهم بعضهم البعض هذه الأعياد، ما أعطى انطباعا حضاريا عن المدينة، وولد حركة روحية واجتماعية وتجارية، فمن الضروري ان تستعيد طرابلس دورها الاقتصادي الريادي كعاصمة لبنان الثانية، ونسأل الله مع بداية العهد الجديد والحكومة الجديدة، وفي ظل هذا التوافق السياسي الذي نعيشه، ليس فقط لمدينة طرابلس ولكن لكل لبنان واللبنانيين، ان ينعموا بالسلام والامن، وهذه هي امنيتنا في الأعياد، ونسأل الله ان تكون هذه السنة مليئة بالخير والبركة، فمن حقنا ان نعيش بسلام واستقرار امني واقتصادي. هذا كل ما نطلبه من الدولة حاليا بكل سلطاتها”.
المفتي الشعار
بدوره، شدد مفتي طرابلس والشمال مالك الشعار على أن “طرابلس تحتضن جميع الطوائف والمذاهب، وأن الأحداث التي وقعت فيها كانت طارئة، وأحيانا خارجية”، وقال:” ينبغي لنا أن ندرك ان طرابلس هي عاصمة لبنان الثانية، وكلمة عاصمة لها أبعاد متعددة في الثقافة والانتماء للوطن والتاريخ والواقع. طرابلس كانت ولا تزال الدرة المشرقة، وهي مدينة وطنية بامتياز. لماذا أقول وطنية بامتياز؟ لأن جميع شرائح المجتمع اللبناني يعيشون فيها، بخلاف كثير من مدن لبنان، كجونية والنبطية وباقي المناطق. هذه المدينة وشوارعها، بداية من حارة السيدة وشارع المطران وشارع الكنائس الى غير ذلك مما هو معلوم، تحتضن جميع الطوائف وجميع المذاهب وجميع الانتماءات، فتاريخ المدينة النضالي الوطني يشهد أن رجال الاستقلال عاشوا هنا، ويشهد على بيئتها الثقافية وانتمائها العربي واحتضانها لقضايا العرب، حتى الجزائر”.
أضاف: “هذه المدينة لم تتغير، لكن طرأ عليها بعض التيارات والعواصف التي ارادت ان تغير مناخها، إلا أن الحقيقة والواقع يشهدان بخلاف ذلك. ولا اريد، أنا كمفت ومواطن لبناني من طرابلس، ومن اهم مناطق طرابلس، الحدادين، لا اريد ان اتبنى انا فقط واتصدى لكشف الحقيقة. فلو سئل كل من يرتاد المدينة من الأخوة المسيحيين والعلويين والشيعة والدروز لقالوا مثل هذا الكلام. وإن تعاون المرجعيات الروحية المسيحية مع دار الفتوى في كل انشطتنا الوطنية والاجتماعية والثقافية والدينية يشهد ان طرابلس ما زالت درة مشرقة مضيئة”.
وتابع: “المشكلة ان الوضع الاقتصادي في طرابلس اليوم محزن ومخجل وأليم، وبالتالي اتسعت فيه رقعة الفقر والبطالة والجهل، والدولة مرت بمحطات مؤلمة جدا فشغلت عن الاهتمام بالقضايا التعليمية والاجتماعية وغيرها، ما جعل طرابلس خاصرة رخوة. ولكن هذا لا يغير التاريخ والواقع وثقافة المدينة ومناخها الوطني، وهنا اضرب مثالا على ذلك: لو اردت ان تقوم برصد حركة الطرابلسيين مع الاخوة المسيحيين في اعيادهم لوجدت ان المسلمين في طرابلس يقومون بمعايدة اخوانهم المسيحيين في المطرانيات والمرجعيات الروحية وعددهم اكثر من الاخوة المسيحيين انفسهم، وهذا يدل على ان المناخ الذي نعيشه هو مناخ وطني بامتياز. وهنا انوه بأن هذا المناخ له اصول دينية عندنا، فربنا سبحانه وتعالى قال في القرآن الكريم عن الاخوة المسيحيين (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى)، وايضا قال سبحانه وتعالى (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ…)، فنحن لم يرد لدينا في القرآن على ان نقوم ببر وحسن معالمة الاخوة المسيحيين فقط، وهذه الاصول الدينية لها علاقة بفطرتنا وتربيتنا. لذلك تجد أن في البناية الواحدة يقطن المسلم والمسيحي ويعيشون جيرانا في السراء والضراء، لذلك انا لست خائفا على مدينة طرابلس لأني ادرك العمق الوطني وادرك بان العمق الديني صاف وجلي وواضح وهو الذي يدفعنا إلى العمل”.
وختم: “لو نظرنا لما حدث خلال فترة الأعياد في طرابلس، ما قام به معالي الوزير محمد الصفدي وزوجته السيدة فيوليت الصفدي. كانت الزيارات والمشاركات لافتة للغاية، ما يؤكد على ان طرابلس ستبقى حاملة لواء العيش المشترك والوحدة الوطنية والإخاء الوطني، وكل منا يمارس دينه ومعتقده، المساجد موجودة والكنائس موجودة، ولكل من المسلمين والمسيحيين حقوق يمارسونها. اما الحياة الاجتماعية فمفتوحة في ما بيننا، والعلاقة لن تتوقف. لذلك لست خائفا على الاطلاق لأن اساس المشكلة ليس بين المسلم والمسيحي. المشكلة طارئة، وتارة تكون خارجية، واللبنانيون على يقين من ذلك”.
من كل ما تقدم، يبدو جليا أن طرابلس هي مدينة الألفة والتمازج والتلاقي، وليست مدينة التطرف والإرهاب كما يحاول بعض المغرضين تصويرها، إمعانا منهم في تشويه وجهها الحقيقي، وطمس تاريخها العريق. إنها مدينة الإعتدال والإعتراف بالآخر، وهي تشكل أنموذجا نادرا لنبذ العنف والتعايش بين أطياف المجتمع وشرائحه كافة، في خضم الأزمات والحروب الدامية التي تعصف بدول الجوار.