ألقى السفير الفرنسي في لبنان برونو فوشيه في إطار زيارته إلى جامعة الروح القدس- الكسليك محاضرة بعنوان “وظائف العمل الدبلوماسي وسياسة فرنسا الخارجية في الشرق الأوسط”، نظمها مكتب العلاقات الدولية في الجامعة.
الأب حبيقة
بدايةً، كانت كلمة لرئيس جامعة الروح القدس- الكسليك الأب البروفسور جورج حبيقة، رحبّ فيها “بالسفير الفرنسي في لبنان، هذا البلد الصغير الذي يعاني من تعقيدات جمّة لكنّه يبقى مهد الديمقراطية التوافقية ومختبر الإنسانية المتصالحة مع ذاتها في الغيرية وتآلف الاختلاف والمكان المميّز الذي يحتضن هذه الإنسانية الفريدة”.
ونوّه “بالعلاقات المتينة التي تجمع بين لبنان وفرنسا، خصوصاً وأننا نرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفرنكوفونية ونملك تاريخاً ومصيراً مشتركَيْن. ومما لا شكّ فيه أنّ فرنسا تتحمّل مسؤولياتها التاريخية تجاه لبنان من دون أن تدخّر أي جهد لدعمه وحمايته كلما دعت الحاجة. وأؤمن بأنّ الكلمة الأخيرة في مستقبل هذا الشرق ليست لمن يشرزمه ويشرنقه في كيانات متنافرة ومتكارهة ومتحاربة بل لمن يرسي أساسات جديدة لإنسانية متصالحة مع ذاتها في الآخرية المنفتحة والمتحاكية، لاسيما وأنّ قبول الآخر والاعتراف به هو شرط أساسي لوجود ذاتي والطريق الوحيد لأعي ذاتي في غيريتها. إذا”، الآخر المختلف هو جزء لا يتجزأ من هويتي الشخصية لأنّه طريقي إلى ذاتي”.
وختاماً، شكر السفير على “تلبيته هذه الدعوة والإيجابية العالية التي أظهرها بتقديم محاضرة غنية ونقل أفكار مشرقة ومعلومات قيّمة إلى الطلاب، الذين هم مستقبل لبنان، حول مهنة الدبلوماسية وسياسة فرنسا في الشرق الأوسط، هذا الشرق الذي يختزن تكدسات ثقافية وحضارية غنية للغاية والذي يبقى مدى فريدا لتلاقي مختلف الديانات وتثاقفها”.
السفير فوشيه
ثم بدأ السفير الفرنسي في لبنان برونو فوشيه بتقديم محاضرته التي حملت عنوان “وظائف العمل الدبلوماسي وسياسة فرنسا الخارجية في الشرق الأوسط” أمام الطلاب عارضاً فيها لمسيرته الأكاديمية، فهو خرّيج المدرسة الوطنية للإحصاء والإدارة الاقتصادية، وخريج المعهد الوطني العالي للإدارة، وحاصل على دبلوم في الدراسات المعمّقة بالتاريخ والحضارة الاقتصادية، ودبلوم من معهد الدراسات السياسية في باريس. كما استعرض لمراحل حياته المهنية حيث شغل مواقع عدّة في السلك الدبلوماسي الفرنسي، ففي العام 1990 انضم إلى إدارة المنظمات الدولية في الأمم المتحدة في الإدارة المركزية، ثمّ شغل منصب السكرتير الأول لبعثة فرنسا الدائمة في الأمم المتحدة الى نيويورك، ثم عيّن مستشارا ثانيا في طهران، ثمّ عيّن مستشارا أول في الرياض. وبعد ذلك، شغل منصب نائب مدير قسم أفريقيا الغربية في وزارة الخارجية الفرنسية، ثم سفيراً في تشاد ثم سفيراً في طهران. وقبل مجيئه الى لبنان، كان يشغل منصب رئيس مجلس إدارة المعهد الفرنسي. وبعد هذا العرض، أكّد للطلاب أنّ مبدأ “الاختيار” كان محرّك حياته الأساسي وقد تقصّد أن يختار شيئاً لا يعرفه.
ووصف العمل الدبلوماسي على أنّه “عمل متكامل وفعلي وطويل الأمد يبدأ من عمر العشرين ويستمر حتى عمر الستين، ويفتح الطريق أمام خيارات وأبواب كثيرة لأنّه متشعّب إذ يضم اختصاصات عدة مثل العلوم السياسية والتاريخ والآداب والعلوم الاجتماعية والاقتصادية… ويفسح بالمجال أمام تعلّم لغات جديدة والتعرّف على حضارات وثقافات وشعوب أخرى، فعندما كنتُ سفيراً في إيران تعلّمتُ اللغة الفارسية وعمّقتُ معرفتي الثقافية حول هذه الحضارة. وتتطلّب الدبلوماسية احتكاكاً مباشراً مع شعب البلد المُضيف واحترام عاداته وتقاليده والتكيّف مع وضعه الداخلي، لأن الدبلوماسية ليست مفاهيم مجردة بل فعل ملموس يتضمّن مفاهيم حقيقية تحاكي الواقع وتشترط القيام بالأبحاث والتثقيف الذاتي المستمر والتواجد الدائم في قلب الحدث، وأحياناً مواجهة مخاطر محدقة مثل الحروب والمواجهات المسلّحة، وكل ذلك بهدف ممارسة دبلوماسية فاعلة”.
ثم أضاف: “يأخذ الدين حيزاً كبيراً في عالمنا اليوم، فبتنا نواجه صراعات ونزاعات ومشاكل أساسها الدين، وهنا يبرز دور الدبلوماسية في معالجة هذه المشاكل وخلق التواصل بين الشعوب وبناء جسور الالتقاء والتوافق وهدم الجدران الفاصلة وتخطّي عوائق الحوار. ولابد من الإشارة إلى أنّ السياسة ليست من فعل رجال السياسة والوزراء حصراً بل هي نتاج العلاقات البشرية والتواصل والاحتكاك مع مختلف الفئات السياسية والمجتمعية”.
وعن تجربته في لبنان التي بدأت في شهر تموز 2017، أشار السفير فوشيه إلى أنّ “لبنان هو خلاصة لثلاثة مبادئ، هي العامل العسكري والأمن والسياسة”، متطرقاً إلى الوضع السياسي الراهن وهيكلية النظام السياسي ونقاط ضعفه ودور الفئات والأحزاب السياسية. وتناول موضوع “الصراع اللبناني- الإسرائيلي والتهديدات الإسرائيلية التي لا تزال تواجه لبنان منوّهاً بإرادة اللبنانيين الصلبة وتمسكّهم القوّي بكل شبر من أرضهم ورفض التفريط بها رفضاً قاطعاً، علماً أنّ هذا الصراع قد تفاقم مؤخراً بالتزامن مع اكتشاف النفط في لبنان”.
ثم انتقل للحديث عن السياسة الخارجية لفرنسا في الشرق الأوسط معتبراً أنّ “تعريف العالم العربي هو أمر معقّد نظراً إلى اختلاف المعايير المتّبعة أكانت جغرافية أم إيديولوجية أم سياسية… وتبرز علاقة اقتصادية مميزة بين فرنسا والعالم العربي لأنها تعتبر سوقاً لتصدير البضائع العربية. أمّا سياسة فرنسا في العالم العربي فهي قديمة العهد وقام برسمها الجنرال ديغول وتطوّرت مع مرور الزمن، وهي تستند إلى ثلاثة مبادئ: أولاً: السياسة الفرنسية تُصنع في باريس وليس في واشنطن، ثانياً: سياسة حاسمة تجاه إسرائيل وتجاه الصراع العربي- الإسرائيلي، هذا الصراع الذي يصعب حله، ثالثاً: تحمّل مسؤولياتنا حول عملية إرساء الأمن في العالم العربي، لهذه الغاية شاركنا في الحرب على داعش. واللافت هو أنّ الرؤساء الفرنسيين المتعاقبين لطالما كانوا أوفياء لهذه السياسة وركائزها، واليوم مع الرئيس ماكرون تطبّق هذه السياسة كاملةً. إذاً، تمتلك فرنسا جميع المقوّمات السياسية والاقتصادية والتاريخية لتقول كلمتها في العالم العربي وليكون لها التأثير الأكبر فيه، خصوصاً وأنّ عدد كبير من البلدان العربية هي بلدان فرنكوفونية. أمّا لبنان فلطالما كان بلداً مميّزاً بالنسبة إلى فرنسا حيث يرتبطان بعلاقات إنسانية وتاريخية استثنائية”.