العقيدة بين العقدة والإعتقاد

130 views

رادار نيوز – هل الذي أحصى السنين مفاخراً يا صاح ليس السرّ في السنوات لكنه في المرء كيف يعيشها في صحوة أم في عميق سبات” أيليا أبو ماضي

بعد تفشّي ظاهرة التطرّف العنيف المنتسب إلى الإسلام السلفي، زارني صديق بريطاني في بيتي، وهو صحفي مخضرم وشهير، ليستفهم عن رأيي في تلك الظاهرة وعن مدى تأثيرها على أبناء مدينة طرابلس. بعد حوار طويل، ولختام الحديث سألني: “قل لي يا صديقي ألا يسأم هؤلاء السلفيون من القراءة في كتاب واحد؟”، فأجبته دون تردّد، لأنني كنت قد راجعت القضية مرات مع ذاتي وقلت: “يا عزيزي أنت صحفي امتهنت البحث عن الحقيقة منذ خمسين سنة فهل وجدتها؟”، فأجابني: “بالطبع لا”، فقلت: “أولا يضنيك هذا البحث الدؤوب وراء هدف تحجبه عنك أعداد لا تحصى من الستائر؟”، فهزّ رأسه إيجاباً، فقلت له: “هم وجدوا الحقيقة كلها في مقال واحد وارتاحوا، وأنت ما زلت تبحث بين أكوام الورق والتقارير، فمن حاله أفضل؟”.

عندما شاهدت فيلم “عقول جميلة” الذي يروي سيرة أحد عباقرة الرياضيات في القرن العشرين “جون ناش”، الحائز على جائزة نوبل سنة 1994، استغرقت في مراجعة عميقة عن دور العقول النيّرة في تحدّي الأوهام والأفكار المسبقة الثابتة، حتى في مواجهة ذواتهم في بعض الأحيان.

فجون ناش كان أسير مرض انفصام الشخصية (شيزوفرينيا) وكان يعيش مع شخصيات وهمية كادت أن تقضي على نبوغه المبكر، عندما وضع “نظرية التوازن” التي أصبحت قاعدة عامة في الرياضيات والاقتصاد. لقد تمكّن ناش بنبوغه من التغلّب على الأوهام والسيطرة على حالة مستعصية في الطب النفسي، ليكمل بحوثه ويعود للتعليم في جامعة “برنستون”. إنّه أحد تلك العقول النيّرة القادرة على البحث عن الحقيقة رغم كل الصعوبات والأفكار المسبقة، مهما تجذّرت في عقول الناس.

من هنا أنطلق لطرح فكرة العقيدة، وهي في أصل الكلمة التأويلي محبوسة بين احتمالين، فإما أن تكون أصلها من فعل “أعتقد”، وبالتالي ترك احتمال النقاش مفتوحاً حول ما هو موضوع العقيدة، أو أن يكون أصلها “عقدة”، وبالتالي يصبح مجرد طرح النقاش ضرباً من المستحيل، وطريقاً حتمياً للشجار. فعندما أعتقد عليّ أن أفكر، وعندها يصبح الاعتقاد مجالاً للمراجعة والتأويل بناءً على ما يستجد مع الوقت، في تجاذب ما بين الكشف والاشتباه. أما العقدة التي تصبح عقيدة غير قابلة للبحث، فتعني موت ملكة التفكير التي هي ميزة الشر.

ما لنا ولكل ذلك، ولكن واقعة لبنان اليوم هي في كونها أسيرة ما بين المعنيين، أي ما بين أن تكون العقيدة اعتقاداً قابلاً للبحث والتحليل في سبيل الحلحلة، أو عقدة كأداء لا مجال للتحايل عليها إلّا من خلال القطع، والقطع هنا يشبه أن يقطع المرء جزءاً منه…

الموضوع المطروح هو كون عقيدة “حزب الله”، بمختلف جوانبها السياسية والأسطورية، لا تختلف بمضمونها العقدي عن كل العقائد العقدية الأخرى، بغض النظر عن المسوغات الفلسفية المرتبطة بها، وبغض النظر عن المسار العملي لمتّبعي العقيدة، أي أساليب عملهم.

فبالمجمل، كل تلك العقائد متشابهة في استعمالها للعنف سبيلاً للإقناع، وكلها تصنّف الناس في فسطاتين، أعداء أو أتباع، وكلها تعتبر نفسها مالكة للحقيقة الكاملة المطلقة عن الماضي والحاضر والمستقبل، وبالإجمال لدى كل منها تصور لنهاية الأزمنة، حتى تلك التي تفترض نفسها علمانية وملحدة. بالمختصر، فإنّ هذا النوع من العقائد يلغي الإنسان كوجود متفاعل مع ما هو موجود حوله، ويخرج نفسه عملياً من الوجود ككيان، ويرمي نفسه في كيان نظري، يفترض أنّه يسمو به وفيه. لكن الواقع هو أنّه يهدر وجوده ككيان قادر على الاختيار بمنأى عن فكرة فرضها “آخرون”.

من هنا فهمي وتفهمي لـ”حزب الله”، كما أنا أفهم “داعش” والفاشية والنازية والعنصرية واليسار الثوري المسلح، واليمين الفاشي العدواني، فكلها ظواهر تشرب من نبع تسليم التفكير للغير، والتضحية بالذات، جسدياً ووجودياً، من أجل فكرة أراحته من التفكير. وعلى عكس من يظن، وأرجو أن أكون مخطئاً، فإنّ “حزب الله” لا يمكنه أن يتحول في يوم من الأيام إلى حزب سياسي، يمارس العمل السياسي خارج نطاق العقيدة المقدّسة، وهو بالأساس رفض فكرة أن يكون هناك فرق بين ما هو سياسي وعسكري عنده، وهي الاختراع البراغماتي الذي اعتمده الأوروبيون لتحليل ما هو محرّم في التعامل مع إيران وأدواتها، عساها تكتفي شرّ القتال.

لكن ماذا يعني كل هذا الشرح؟ يعني أنّ “حزب الله”، الفيلق العسكري في الحرس الثوري الإيراني، وهو جوهرة التاج الامبراطوري اليوم، هو نقي العقيدة وصادق بانتمائه “لأمّة “حزب الله” الذي نصر الله طليعتها في إيران…”، وهو بالتالي واعٍ تماماً لمهمته المقدّسة بالقتال في موقع لبنان العسكري المتقدّم، للدفاع عن قلب الأمّة في طهران. من هنا، فإنّ التزام الحزب بمسؤوليته، سيدعوه لكي يستجيب للاحتياجات العسكرية المركزية في مساره. بالتالي، فإنّ حشر إيران الحاصل اليوم في سورية بالذات، سيتمّ ترجمته بعمل ما سيقوم به الحزب في لبنان وسورية، وكل ذلك في سبيل تدعيم موقف إيران “التفاوضي” مع أميركا وروسيا. يعني أنّه بقدر ما يصمد الحزب في تحمّل الدمار في لبنان وسورية، بقدر ما ترتفع قيمة إيران في المفاوضات غير الودّية. في ظلّ كل ذلك، فإنّ الحزب لا يرى اليوم، كما كان دائماً، في لبنان إلّا موقعاً عسكرياً متقدّماً، وليس مسكناً يرعاه ويعطف عليه. العطف والرعاية هما من صفات البشر العاقلين، الذين تتفتح عقولهم على التفكير في خطواتهم في كل لحظة، أما العقيدة العمياء فهي تُجرّد الفرد من إنسانيته، وبالتالي تعاطفه مع الآخر، ليتحوّل إلى أداة مجرّدة في يد العقيدة.

“انّ البشر الساكنين مؤقتاً في الأرض، لا يحق لهم احتكار المقدّس كملكية خاصة، ولا الخضوع لعبادة الأوثان”، مارتن هيدغر في “فكرة بناء المسكن”.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Previous Story

مصادر السراي لـ”الجمهورية”: الدولار سينخفض وبنسبة كبيرة شرط أن يفي سلامة بوعده

Next Story

فهمي تحرّك بعيداً من الاضواء على خط دار الفتوى- السرايا

Latest from Blog