هيكل: مبارك يعشق الأحذية وأطاح بـ”أبو باشا” لأنه لم ينكل بشقيقه “سامي”

110 views
109 mins read

يقدم الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في مقدمة الحلقة الثامنة من كتاباته “مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان” والتي تصدر عن دار الشروق، رصداً لآراء مختلف من تعامل مع الرئيس السابق خصوصاً ما قيل عنه “البقرة التى تضحك”، إضافة إلى آراء أخرى.. ويقول:

طوال الفترة الأولى من رئاسة «مبارك» تفاوتت المواقف بشأنه لدى جماهير الشعب المصري، وتباينت الآراء: فريق مازال واقفًا عند بقايا «حكاية البقرة التي تضحك»، ولا يكف عن إطلاق النكات حوله.

وفريق ثانٍ يطلب من الرئيس الجديد فوق ما تحتمله الظروف، دون إدراك للمصاعب والقيود التي تعترض طريقه، حتى لقد وصل البعض في هذا المجال إلى مطالبة «مبارك» بنقض «معاهدة السلام» مع إسرائيل، كي يعود إلى الصف العربي.

وفريق ثالث قدَّر أن الظروف ـ بعد اغتيال الرئيس «السادات» وبعد موجات القلق المرتدة بعد صدمة الاغتيال ـ لا تسمح لأحد بترف التمسك بانطباعات مسبقة أو الإلحاح بمطالب عاجلة، لأن الرجل بالفعل يستحق فرصة مفتوحة.

وفريق أخذته الحيرة، وكان موقفه الإمساك بالتداعيات لا تفلت ولا تتردى، ومقولته أن «اتركوا الرجل لنفسه، ولما يعرف، ولمن يعرف، وانتظروا!!».

وللأمانة فإن الأغلبية من الناس كانت على استعداد لأن تقبل بالرجل، وتنتظره، وتعطيه هذه الفرصة المفتوحة، وإن كان ذلك لم يمنع أن آخرين ظلوا يتوقعون أن يتصرف الرئيس، كما يجب في رأيهم أن يتصرف.

والحقيقة أنني كنت ضمن الفريق الذي يرى أن الرجل يستحق فرصة، خصوصا أن حقائق الأشياء لها منطقها، ومع ذلك فإن الرجل بدا محيراً لي، وبين أسباب حيرتي ما كنت عرفته وإن ظل محجوباً عن دائرة العلم العام.

كنت أعرف شيئاً عن قضية «الخرطوم»، وسلة المانجو الملغمة التي أسهمت على نحو أو آخر فى اغتيال الإمام «الهادي المهدي”.

وكنت أذكر ما سمعت في باريس عن النشاط الذي  قام به «مبارك»، سواء في إطار مجموعة «السفارى» في أفريقيا، أو غير ذلك مما سمعت.

لكنني وربما رغبة فى تهدئة قلق يساورني من توجُّهاته، خصوصا بعدما سمعت منه بنفسي عن رؤيته للعلاقات مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل، حاولت أن أجعل شكوكي تميل إلى ناحية البراءة، كما يقولون.

بمعنى أنني فى كل ما هو سياسى لم أضع على الرجل مسئولية قرار سابق على رئاسته، فالقرار لم يكن عنده وإنما عند غيره، ومن الصعب الطلب من كل مسؤول في الدولة – حتى على مستوى نائب الرئيس – أن يقف أمام كل قرار لا يوافق رأيه ويحوله إلى أزمة، خصوصا إذا كان هذا الرجل نفسه من خارج الدائرة السياسية أصلا، وإنما هو من داخل دائرة تلقي الأوامر وتنفيذها، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض المسائل السياسية فيها من قواعد النظر والتفكير ما يختلف عن مواد القانون، ذلك أن السياسة تقدير، في حين أن القانون نصوص، ومع أن هناك باستمرار صلة لابد من وجودها بين التقديرات والنصوص، إلا أن هذه الصلة تحتفظ فى عوالم السياسة بمرونة أوسع في تفسير وتأويل النصوص!

يُضاف إلى ذلك أنه في النظر إلى تصرفات من نوع ما جرى فى «الخرطوم»، أو فى إطار مجموعة «السفارى»، فإن القضايا معقدة، وفيها ما يتعلق بمصلحة الدولة العليا RAISON D’ETAT، على حد قول الكاردينال «ريشيليو»، لأن المسؤول عن القرار له معيار في حسابه، في حين أن المسئول عن تنفيذه له معيار آخر، وهذا المسؤول عن التنفيذ لديه ما يدفع به أى اتهام، بقاعدة أنه نفذ أوامر صادرة إليه من سلطة أعلى، عليها هي ــ وليس القائم بالتنفيذ ــ حساب دواعي المصلحة العُليا في القرار.

وأبسط مثال على ذلك أن البوليس لا يملك غير طاعة الأمر، إذا طلب منه إجراء معين في طلب حفظ الأمن، وكذلك الجيش حين يُقاتل بهدف النصر.

وقد أثيرت هذه القضايا جميعا، وعلى أوسع نطاق بعد الحرب العالمية الثانية بالذات، وتناقضت الآراء إزاء تصرفات متجاوزة (أو هكذا حسبها الآخرون)، لكن الذين قاموا بها، فعلوا ما فعلوا وهم تحت أوامر رؤسائهم، أي تحت ظروف قوة قاهرة تقتضيها مصلحة عامة قدرها مسئول سياسي، باعتبارها مطالب دولة ولا سبيل أمام المكلف بالتنفيذ غير أن ينفذ، وهذه على أية حال قضية يطول فيها الجدل ولا تفرغ الحجج.

وهكذا فيما يتعلق بـ«مبارك»، فقد كان ظني أن صفحة حسابه السياسي تبدأ منذ انتخابه في أكتوبر 1981، لأنه قبلها كان موظفا يطيع الأمر، حتى وإن كان بدرجة نائب لرئيس الجمهورية، وهو منصب سياسي.

برغم هذه المعايير التي تميل لصالح الشك، بمعنى أنها لا تحكم بمقتضى الظنون، ولا تفصل بالشُبهات، ولا تتعسف في اختصاصات السلطة بين السياسي والتنفيذي، فإن «مبارك» كان «محيرا»!

في بعض اللحظات تبدت منه تصرفات تلقى القبول، وفي لحظات أخرى تصرفات تلقى الرفض، وفي مرات أخرى تصرفات تلقى الاستغراب!!

ومثلا فقد رأيته بنفسي على شاشات التليفزيون المصري يزور أحد المصانع، ثم يتبسط مع أحد الواقفين أمام الآلات، يتحدث إليه ويسأله عن أجره، والرجل يراوغ فى الرد، ويزيد إلحاح الرئيس، والكاميرات مسلطة عليه وعلى الرجل الواقف أمام الميكروفونات، حتى اضطر الرجل الذي بلغ به الإحراج أشده، أن يقول للرئيس الجديد:

ــ «يا افندم، «أنا عنصر أمن، ولست عاملا هنا».

أي أنه ضابط بوليس دس وسط العمال أمام إحدى الآلات تشديدا مقصودا للأمن.
وهز «مبارك» رأسه وكان تعليقه: «آه»!

لم يقل غيرها وانصرف عن الرجل، ومع أن كل من رأوا المشهد علَّقوا عليه، فقد كان ردي على كل من سألوا: «ألا ينسوا أنه تصرف عفويا بحسن نية»، وفي الحقيقة فإنه كان يكفيني منه فى ذلك الوقت أن أراه يقوم بزيارات منتظمة لوحدات الإنتاج، ويظهر حرصا عليها، يدرأ عنها غارات المتربصين!!

وفي مثال آخر لقيت الملك «حسين» ـ ملك الأردن ـ في القاهرة، وكان قد جاء إليها بعد ما بدا من هدوء بعد عاصفة الاغتيال، ولم يدهشني كثيرا أن الملك أشار بيده إلى سقف صالون القصر الذي ينزل فيه، ويقترح: دعنا نخرج إلى الحديقة نتمشى، فأنا لم أمارس أي رياضة هذا الصباح، وخرجنا، وكان الملك يريد أن يفضي إلىَّ بما لم يشأ أن يقوله داخل جدران القصر، ولم ينتظر طويلا عندما وصلنا إلى الهواء الطلق، وراح يتحدث عن «مبارك»، وخشيته: «أنه لا يعرف ما يكفي عن علاقات مصر العربية ولا تاريخها السابق أو الجديد، ولم يقرأ الملفات، وإذا كان قرأها فهو لم يستوعبها»، وأضاف الملك «حسين»: «إن الرجل لم يتغير منذ رآه لأول مرة وهو نائب للرئيس، يحمل إليه رسالة من «السادات».

وراح الملك ونحن نمشي بين الأشجار يقلد الرئيس «مبارك» عندما جاءه أول مرة نائبا للرئيس، وبرسالة منه، ويقلده وهو يفتح حقيبته، ويستخرج ملفا منها، وطبقا لرواية الملك: «فإن «مبارك» عند بعض النقط لم يستطع شرح المقصود من الرسالة، واستوضحه الملك، ودقق نائب الرئيس المصري في أوراقه، وبدا عليه الارتباك، ثم قال: «لا أعرف، ولكن هذا هو المكتوب أمامي، وعندما أعود إلى القاهرة فسوف أسأل الرئيس «السادات» عن مقصده، وأرجوه أن يكتب إليكم»!!».

وعقَّب الملك «حسين»: أنه لم يستطع أن يفهم، هل محدثه نائب لرئيس الجمهورية، أو حامل حقيبة يلتزم بأوراق كتبها بخطه، ومع ذلك لا يستطيع شرحها؟!!

وكان ردي على الملك «حسين» بأن الرجل ـ أقصد «مبارك» ـ ورث أوضاعا معقدة، ومعظمها مشاكل عويصة وخطيرة، ومن الحق أن تُترك له الفرصة.

ومثلا ـ وفي تلك الفترة أيضاً ـ جاءنى السفير «جمال منصور» وكان وكيلا لوزارة الخارجية، وهو من الأصل واحد من الضباط الأحرار (وهو بالمناسبة خال رئيس الوزراء السابق الدكتور «عصام شرف»)، وكان لدى «جمال منصور» ما يريد أن يقوله عن الرئيس الجديد، لأنه لاحظ ــ ونحن سويا ضيوف عشاء ــ نبرة حسن نية تطلب إعطاء «مبارك» فرصة لتثبيت وضعه، وكان رأي «جمال منصور»: «أنه لا فائدة، ثم راح يروى أنه التقى «مبارك» لأول مرة عندما كان يشغل منصب نائب الرئيس، وقد كُلِّف من «السادات» بنقل رسالة إلى الماريشال «جوزيف بروز تيتو» (رئيس يوجوسلافيا)، وهو صديق قديم لمصر، وكان «جمال منصور» وقتها سفيرا لمصر فى «بلجراد»، وكان بالطبع فى صحبة نائب الرئيس عندما ذهب لمقابلة «تيتو»، وقضى نائب الرئيس والسفير مع الرئيس اليوجوسلافي قرابة ساعة، وخرجا بعدها، وكان أول ما قاله النائب للسفير حين دخلا معا إلى السيارة سؤاله: إذا كان يعرف من أين يأتي «تيتو» بأحذيته، فهو طول المقابلة لم يرفع نظره عن حذاء «تيتو»، ويراه «بديعا»، وهو يريد أن يعرف هل الرئيس اليوجوسلافي يشترى أحذيته جاهزة، أم أنها تفصيل؟، وكان طلبه من السفير أن يسأل من يعرف في حاشية «تيتو»، مضيفا: «أن الأحذية «الحلوة» ي هوايته الرئيسية»!

وكان تعليق «جمال منصور» قوله: «لا فائدة!».

وكان ردى على السفير «جمال منصور» أن اعطوا الرجل الفرصة، وأن هموم الرئاسة لن تترك لديه وقتا للتطلع إلى أحذية من يقابلهم من الرؤساء، وكان بين ما قلت لـ«جمال منصور»: أن «مبارك» هو نموذج الرجل العادى، لا هو الزعيم التاريخى، ولا هو نجم الشباك، وربما أن هذا ما تحتاجه مصر فى فترة هدوء بعد عاصفة المنصة!

ومثلا أضاف الأستاذ «فتحى رضوان» ـ وهو الزعيم الوطنى الصلب ـ إلى معارفى تلك الفترة قصة أخرى على نفس السياق، ولها مثل سابقتها صلة بالأحذية!

فقد اتصلوا به من رئاسة الجمهورية يبلغوه أن الرئيس «مبارك» يريد أن يراه ويتعرف عليه، وأنه حدد له موعدا في استراحة «الدخيلة» كان ينزل فيها من أيام قيادته للطيران، وأن سيارة من الرئاسة سوف تجىء إلى بيته في مصر الجديدة، وتقله إلى مطار «ألماظة» في الساعة السابعة صباحا ليكون في «الدخيلة» ولموعده مع الرئيس في العاشرة، وتحمَّس «فتحي رضوان» للقاء، ولديه كثير يريد أن يقوله، وقد كتب بالفعل نقطا استغرقت خمس ورقات بخطه.

وجاءت السيارة ـ وطارت الطائرة، ووصل الأستاذ «فتحي رضوان» إلى مطار «الدخيلة»، وهناك قيل له إن موعده مع الرئيس تأخر ساعتين، لأن ضيفا أفريقيا كان يزور مصر سوف يجىء إليه، وأن هناك غرفة خُصصت له في الاستراحة حتى يحين موعده، وقضى «فتحي رضوان» في الغرفة قرابة خمس ساعات، واعتذر عن تناول غداء جاءوا به إليه فى الظهر، وبعد الظهر جاء إليه أحد الأمناء يخبره بأن الرئيس سوف يعود الآن من المطار إلى القاهرة مباشرة، وأنه في الطائرة سوف يكون مع الأستاذ «فتحي رضوان» ولمدة ساعة على الأقل، وصعد «فتحي رضوان» إلى الطائرة الرئاسية، وجلس ولا أحد بجواره، لأن الرئيس كان فى الجزء الأمامي من الطائرة مع الضيف، على أنه بعد حوالي ربع ساعة من الطيران، قام «مبارك» عائدا إلى المقاعد الخلفية، وجلس على المقعد المجاور لـ«فتحي رضوان»، معتذرا عما وقع من خطأ، لأنه لم يتذكر موعده مع الرئيس الأفريقي، كما أن مكتبه لم يعرف كيف ينسق ما بين موعدين، وأراد في دفع مظنة الإهمال أن يقول لـ«فتحي رضوان» إنه مازال نفس الرجل لم يغيره منصب الرئاسة، وإنه ـ مقاطعا حديثه ـ تصدَّق بالله يا «فتحي» بيه أنا لا أزال وأنا رئيس الجمهورية أمسح حذائي صباح كل يوم بنفسي، أجلس على الأرض، وأمسح الحذاء بالورنيش، ثم الفرشة، وبعدها قطيفة ألمعه بها.

وراح «فتحي رضوان» يشرح أن رئيس الدولة لا يصح له تضييع وقته في مسح حذائه، وقال «مبارك»: «هذه من عوائدي كل يوم، حتى وأنا تلميذ في ابتدائي، وحتى أصبحت قائدا للطيران، ونائبا لرئيس الجمهورية، والآن رئيسا لمصر، وقبل أن يقول «فتحي رضوان» شيئا، وجاء من يقول للرئيس إن الطائرة على وشك الهبوط في مطار القاهرة، تذكر «مبارك» ضيفه الأفريقي، وأنه يجب أن يكون معه وقت النزول، فقام بعد أن قال لـ«فتحي رضوان» إنه سوف يطلب توصيله بالسيارة بعد الهبوط إلى بيت الرئيس حيث تكون الجلسة الحقيقية بين الرجلين، وهبطت الطائرة، ونزل الركاب، وكانت هناك سيارة في انتظار «فتحي رضوان» لكنها لم تحمله إلى بيت الرئيس، وإنما إلى بيته هو!!

وكان «فتحي رضوان» وهو رجل جاد فيما يتصرف به، يقول مستفزا، وهو يروي لى ما حدث له ــ وسؤاله:

ـ هل يُعقل أن أضيع يوما كاملا في السفر ذهابا وعودة نفس اليوم، ثم يكون لقائي معه خمس دقائق لم أستفد منها إلا أننى علمت أنه «يمسح جزمته بنفسه!!».

ورجوته أن يضع المسؤولية على المكتب وليس على الرئيس، ولم يقتنع «فتحي رضوان»، ورحل بعدها عن الدنيا ولم يدع إلى مقابلة الرئيس، على الأقل للاعتذار له!

ومثلا في هذه الفترة جاءنى الكاتب الكبير والساخر الأكبر الأستاذ «محمود السعدني»، وقد مرَّ على مكتبي دون موعد يقول «إنه لا يريد غير خمس دقائق وسوف ينصرف بعدها»، ودخل «محمود السعدني» إلى مكتبي، وسحبني من يدي إلى شرفة مكتبي يقول لي بصوت هامس:

ـ «مصيبة.. كنت عند الرئيس «مبارك» الآن».
وأبديت بالإشارة تساؤلا مؤداه، وأين المصيبة؟!
وراح «محمود السعدني» يروى:
جلست مع الرئيس ساعة كاملة كلها ضحك ونكت، وعندما حان موعد انصرافي سألته مشيرا إلى المقعد الذي كان يجلس عليه:
ـ يا ريس.. ما هو شعورك وأنت تجلس على الكرسي الذى جلس عليه «رمسيس الثاني» و«صلاح الدين» و«محمد علي» و«جمال عبد لناصر»؟!!
بماذا تظنه أجاب علي؟!
ولم ينتظر «محمود السعدني»، بل واصل روايته:
«نظر إلى الكرسي الذي كان يقعد عليه، والتفت إلي وسألني:
هل أعجبك الكرسي؟!
إذا كان أعجبك، فخذه معك».
ويخبط «محمود السعدني» كفا بكف ويقول:
«وخرجت وطول الطريق لم أفق من الصدمة ـ الرجل لم يستطع أن يرى من الكرسي إلا أنه كرسى، لم يدرك المعنى الذي قصدت إليه».
وحاولت طمأنة «محمود السعدني»، وأنا نفسي لا أشعر بالاطمئنان، وكان تعليقي:
ـ الحق عليك وليس عليه، لماذا تحدثه بالرمز؟! ـ لماذا تفترض أن رئيس الدولة يجب أن يكون عليما «بالمجاز» في أدب اللغة؟!
وكان تعليق «السعدني» لفظا واحدا لا يجوز نشره!

ومرت سنة 1984 والرئيس «مبارك» يدخل إلى سنته الثالثة في رئاسة الدولة، وبرغم كل شىء فقد بدا رجلا يستطيع ــ على نحو ما أن يتأقلم ــ بما يبدد شكوكا كثيرة تصورت أن مرحلة حكمه مجرد تدبير مؤقت، والآن فقد ظهر أن الرجل خطا خطوة، من رجل جاء به تدبير سريع لمواجهة ظرف طارئ، إلى رجل يعبر مرحلة انتقالية، من عصر إلى عصر، وأدليت وقتها بحديث إلى مجلة لبنانية قلت فيها «إن حكم «مبارك» يبدو مرحلة انتقالية، لكن تجارب التاريخ تعلمنا أنه ليس هناك ما هو أقدر على طول البقاء من نظام يتصوره الناس انتقاليا مؤقتا، وبعث «مبارك» إلىَّ برسالة عتاب على اعتباري لحكمه «مؤقتا»، لكن الغريب أنه لم يلتفت إلى الجزء الذي تحدثت فيه عن طول عمر «المؤقت»!!

وكان الرأي الغالب في مصر وخارجها أن اختبار قوة وثبات النظام الجديد هو إدارة معركة انتخابات برلمانية حل موعدها، وتصور كثيرون أنها سوف تكون تحديا سياسيا «من نوع ما»، يواجهه الرئيس الجديد، وأن متابعتها سوف تكشف الكثير عن قدراته السياسية، ولم أتابع معركة انتخابات 1984 بنفسى أثناء جريانها، فقد كنت مشغولا عنها بالإعداد لمجموعة «حرب الثلاثين سنة»، وأولها «ملفات السويس»، وكان البحث عن الوثائق وفرزها وترتيبها في سياقها شاقا، لكن عندما رفعت رأسي عما كان يستغرقني، اكتشفت من نتائج الانتخابات أن «مبارك» قد واجه تحديه المنتظر بأسلوب لاشك أنه مبتكر، بصرف النظر عن أية «أحكام قيمة»، والغريب أنه كان أسلوبا شديد البساطة شديد التعقيد في نفس اللحظة!

وفي الحقيقة فإن هذا الأسلوب كان تأسيسا لمدرسة مختلفة تسربت إلى السياسة المصرية، ومن حسن الحظ أنه كان أمامي مصدران للتعرف على مدرسة «مبارك» عندما تدخل إلى التطبيق العملي لسياساتها ـ أي في الحركة عند التنفيذ!

* المصدر الأول: لقاء طويل على جلستين مع اللواء «حسن أبو باشا» (وزير الداخلية) وهو المسؤول الذي أشرف على المعركة الانتخابية الأولى في عهد «مبارك».

و«حسن أبو باشا» ضابط بوليس مصري أمضى معظم تجربته العملية في الأمن السياسي، وهو منضبط وملتزم، لكنه عند لحظة من اللحظات يفقد قدرته على الاحتمال ويحتج، سواء بمنطق الممكن أو بمنطق المستحيل!!

* والمصدر الثانى: مجموعة كراسات كان يكتبها اللواء «محمد تعلب» (مساعد وزير الداخلية إلى جوار «حسن أبو باشا»)، وهو ضابط من نوع آخر لديه حس إنساني عام ووعي تاريخي يتخطى المألوف، وقد خطر للواء «تعلب» أن يسجل ـ وبعلم وزيره ـ نوعا من يوميات معركة الانتخابات لسنة 1984، وكذلك ملأ كراستين كاملتين بخطه بوقائع تلك المعركة.

وكان اللواء «حسن أبو باشا» حين سمعت منه ما سمعت عن معركة انتخابات سنة 1984 ــ قد ترك مقعد وزير الداخلية، وكان الرجل يشعر أنه ظُلم، وتحمَّل عن غيره ما يتردد قبل الإفصاح عنه، ومع تواصل الحديث خصوصا فى اللقاء الثاني، فإن الرجل بدأ يلين، وبدا أسلوب «مبارك» في السيطرة على نتائج الانتخابات يبين، ليظهر أن الرئيس الجديد لديه أكثر بكثير مما يراه الآخرون على السطح.

وطبقا لرواية اللواء «حسن أبو باشا» (وما قاله تؤيده النصوص مما سجله اللواء «تعلب» من يوميات المعركة الانتخابية) ــ أن «مبارك» عقد مع وزير داخليته جلسة تمهيدية شرح له فيها ما يتصوره لانتخابات مجلس الشعب الجديد:

1ـ «الرئيس» يرى أن تكون الانتخابات ــ وهي الأولى فى عهده ـ مفتوحة لكل من يريد أن يترشح بـ«حريته»!

2 ـ و«الرئيس» بضرورات السلامة الوطنية كما يراها سوف يحدد نسبة مئوية لما يمكن أن تفوز به المعارضة من مقاعد مجلس الشعب، وذلك موضوع سوف يتفق عليه مع وزير الداخلية عندما تتضح «الصورة»، لأن أحوال البلد في هذه الظروف لا تتحمل «اللعب» أو «المغامرة»!!

3 ـ و«الرئيس» لديه قائمة أسماء لا يريد لأصحابها أن يدخلوا المجلس الجديد مهما كانت الدواعي، وهو أيضا سوف يعطي قائمة هذه الأسماء لوزير الداخلية عندما يظهر على وجه اليقين من ترشح، ومن لم يترشح للبرلمان الجديد!!

كانت الصيغة غاية فى البساطة وتلك «عبقريتها»!!

باب مفتوح لمن يشاء ــ ونسب مئوية لأحزاب المعارضة، وهو يريد أن تكون لوزارة الداخلية مرونة في «التصرف» كما تشاء في الدوائر والأسماء، ولكن في إطار النسب المئوية المقررة!! ــ ثم إنه سوف يعطي لوزير الداخلية قائمة بشخصيات غير مرغوب فيها، لا يُسمح لها بدخول المعركة أصلا، ولا دخول المجلس طبعا!! ــ وهذه الشخصيات مختلفة ومتنوعة، فيها أعضاء من الحزب الوطني، وفيها أفراد من أحزاب المعارضة ــ وهذا كل شىء!

وفي رواية اللواء «حسن أبو باشا»، ومن «تقديره للظروف»، فإن قواعد اللعبة (كما سمعها من «مبارك») كان يمكن من الناحية العامة تبريرها، شرط توافر ما وصفه «أبو باشا» في سياق كلامه بـ«درجة من المعقولية «توازن» النتائج ولكن لا تزيفها»، وفي رأيه أن ذلك كان مرهونا بالنسب التي يسمح بها الرئيس للمعارضة، وبمحدودية قائمة غير المرغوب فيهم والمحظور نجاحهم ودخولهم مجلس الشعب الجديد، لكن الصدمة وقعت حين جاءت مقابلة الحسم بين وزير الداخلية وبين رئيس الجمهورية.

ففي لقائهما التالي والسابق للانتخابات، سمع اللواء «حسن أبو باشا» من «مبارك» ما «أفزعه» حسب قوله:

1ـ أن «الرئيس» على استعداد لأن يترك للمعارضة 5% من المقاعد، أى حوالى عشرين مقعدا، لكل الأحزاب وقوى المعارضة مجتمعة.

2 ـ وأن قائمة غير المرغوب فيهم أكبر مما توقع، وكانت دهشته أن الاسم الأول فيها اسم شقيق الرئيس «مبارك» نفسه، وهو السيد «سامى مبارك».

وكان تشدُّدْ «الرئيس» حيال ترشيح شقيقه غير مفهوم، فقد وصل «مبارك» إلى حد القول «بأنه أمر بحذف اسم شقيقه من قائمة مرشحى الحزب الوطني، ولكنه سمع أنه ذهب بعدها إلى حزب الوفد يطلب من الأستاذ «فؤاد سراج الدين» أن يرشحه عن حزب الوفد، وأن «فؤاد سراج الدين» قَبِلَ منه ما اقترح ــ «سامي» ــ عليه».

وزادت المفاجآت على وزير الداخلية لأن «مبارك» أوفد «أسامة الباز» إلى «فؤاد سراج الدين» حتى لا «يأخذ» شقيقه على قائمة الوفد، ولكنه لم ينجح، ثم طلب «مبارك» من وزير داخليته أن يتصل بنفسه مع «فؤاد سراج الدين»، وأن يبلغه ـ وباسم الرئيس ـ أنه لا يريد أن يدخل شقيقه إلى الانتخابات على قائمة مرشحي الوفد!».

ووعد «أبو باشا» بالاتصال بـ«فؤاد سراج الدين»، ثم انتقل بعد ذلك إلى الموضوع الأساسي، متصورا أن «الصيغة المباركية للانتخابات النيابية» قابلة للمناقشة، وكذلك عرض تعديلات تصوره

Previous Story

الوزير أبو فاعور يفتتح الأربعاء المقبل منتدى “المرأة العربية والمستقبل”

Next Story

بريطانيا تخصص سيارات إسعاف لأصحاب الوزن الثقيل !

Latest from Blog

المرءُ وإن طال به العمرُ تبقى آمالُه هي الأطول   تجاربُ السنين   ها أنذا وفي

القصصُ والحكايات مؤنِساتُ الخيال وصانعاتُ التجارب     في سباتٍ عميق   في قلبِ كلِّ واحد

قد تأتيك النصيحةُ النافعةُ على لسانِ مجنونٍ     أقوالٌ بخلاصةٍ واحدة   تحفل الأمثالُ اللبنانية