ناقش مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية خصائص التغيرات في المنطقة العربية والإحتمالات الممكنة في ندوة “آفاق الإنتفاضات العربية ومعوقات الإصلاح” في “قاعة عصام فارس للمحاضرات”، وتحدث فيها المفكِّر والكاتب الأستاذ كريم مروة وأستاذ القانون الدولي في جامعة جورج تاون في واشنطن الدكتور داوود خير الله ومستشار المركز الدكتور رغيد الصلح. وحضرَ الندوة الوزير السابق الدكتور بهيج طبارة وحشدٌ من الأكاديميين والمهتمين.
بدايةً كانت كلمةٌ تقديمية لمساعد مدير المركز ميشال أبو نجم قالَ فيها إنَّ الربيع العربي اطلق الآمال بفجرٍ جديد لشعوب المنطقة، لكن هناك مخاوف من الغيوم التي تبرز في الأفق وتهدد ب”شتاءٍ” من النزاعات الداخلية الحادة أو الصراعات الإقليمية والتدخلات الدولية العسكرية. وأضاف أن المسار نحو إرساء ديموقراطية حقيقية لا يزال في بدايته، وسيكون صعباً ومتقلباً، مشيراً إلى أن الثورات العربية كسرَت مقولةَ “الإستثناء العربي” التي لطالما تحكمت بتفكير العديد من الأوساط الغربية واعتبرت أن المجتمعات العربية غيرُ قادرةٍ على المطالبة بالحرية والديموقراطية وتقبلِّ فكرةِ التعددية السياسية.
الأستاذ كريم مروّة أكّد أن القمع مهما بلغت حدّته، لن يمنع التغيير الذي يشكّل في الوقت الحالي أولى الخطوات نحو الحرّية. واعتبر أن لا فرق بين نظام استبدادي وآخر مشدداً على أن الانظمة العربية والحركات التي استلمت السلطة مستلهمة نموذج الإتحاد السوفياتي في حكم الحزب الواحد لم تتعظ من سقوط هذا النموذج. واكد في هذا المجال أن السبب الرئيس في سقوط الإتحاد السوفياتي هو حكم غياب الحرية وغياب التعددية السياسية وليس العوامل الاقتصادية والإجتماعية على أهميتها.
وقال إن السير إلى الأمام صعب ومعقد، مشيراً الى اننا أمام ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ العربي، إذ إن الثورات كانت عفوية ومفاجئة وجعلت ممكناً ما كان يظنّ أنه مستحيل لسنوات خلت. وأوضح أن لكل بلد خصوصيته النابعة من مسار الظروف التاريخية التي عايشها، على رغم وجود عناصر مشتركة تتعلّق بإستبداد الانظمة وقهرها وتردّي الأحوال الإقتصادية والإجتماعيّة. ورأى أن الوضع في سوريا صعب، وأمل من أركان النظام هناك وعي مخاطر الذهاب بطريقة التعاطي مع الإحتجاجات، مستدركاً بالقول إن الأمر يعود لهم في النهاية.
واعتبر مروّة أن الثورات العربيّة وخصوصاً في تونس ومصر، تثير أسئلة كبيرة تتناول المستقبل كما الحاضر والماضي، داعياً إلى الحذر مما يخبئه المستقبل رغم قناعته الشخصية بأنه لن تكون هناك عودة إلى الوراء. ولفت إلى أن التغيير معقّد لأن القوى التي قامت بالثورة متعدّدة الأصول، وعفويّة، وجمهورها الأكبر غير منتم إلى قوى سياسية على رغم وعيه القادر على طرح شعارات جدية، ولأن الثورة لم تكون حتى الساعة قيادات قادرة على جمع الثوّار حول برنامج واقعي ومرحلي للتغيير.
ولفت في هذا السياق، إلى أنَّ الخلل الرئيسي في الثورات يكمن في الطروحات الراديكالية التي تريد تحقيق كل شعارات التغيير دفعة واحدة، من دون الأخذ في الإعتبار أن القوى القديمة المتمثّلة بالنظام القديم والقوى العسكرية والسلفية، ما زالت موجودة ومنظمة وقادرة على العرقلة، مشدّداً على أن الإنهيار الإقتصادي يحتّم وجود حكمة وعقلانية أكبر في التعامل مع الواقع.
أما بالنسبة للأسئلة المتعلّقة بالحاضر والماضي، فأشار إلى أن الأنظمة العربية قامت إثر تطوّر تاريخي أدّى إلى سيطرة مفهوم الإستبداد على ما عداه ووسّع الهوّة مع شعوبها. وشرح أن الطبقة السياسية الناتجة عن الحركات الإستقلالية والمتأثرة بالحركات التحررية في السلطنة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لم تستطع تكوين برنامج تنموية للتعامل مع الواقع الصعب والمتخلّف لدولها صبيحة الإستقلال، فذهبت إلى إنشاء واقع سياسي على قياس مصالحها. فكانت ردّة فعل الحركات القومية واليساري على ذلك انقلابات عسكرية زادت إلى الواقع استبداداً، أمّا اليساريين فأمسوا مهمّشين وضعفاء بفعل التزامهم بالنموذج السوفياتي الذي انتهج سياسة دعم الأنظمة المستبدّة القائمة عوض دعم التغيير، لافتاً إلى ان الحركات اليسارية والانظمة الإستبدادية العربية لم تأخذ من دروس انهيار الإتحاد السوفياتي وظلّت على منهاجها القديم القائم على الاستبداد وعدم إعطاء قيمة للحرية.
الدكتور داوود خير الله أكد أنَّ اليقظةَ الشعبية كفيلةٌ بعدم عودة عقارب الساعة إلى الوراء ولا بد للحاكم أن يكونَ أكثر انفتاحاً واستجابةً لمطالب شعبه، لكنه لفت إلى أن الإستنتاج بأن المجتمعات العربية تعيش حال ولادة دولة مواطنة عصرية يسودُها حكم القانون وتضمن مؤسساتها الحقوق والحريات والمشاركة في الحكم، يتضمن الكثير من التفاؤل في ضوء تجذر الهويات الفرعية والتجزئة وغياب التنظيم المؤسسي لدى قوى التغيير.
ورأى أنَّ الثورة المضادة لمناهضة التغيير قائمة على قدمٍ وساق وتبدو بوجهها العربي بقيادةٍ خليجية، وأن هذه الثورة المضادة ظهرت بوادرها ومنها التدخل العسكري الخليجي في البحرين، مضيفاً أنَّ قوى مقاومة التغيير ستفعّل كل ما لديها من أسلحة للسيطرة على الأحداث بما يخدم مصالحها. وقال إن إيقاظ هويات التجزئة وانتماءاتها وإثارة الهواجس والمخاوف المذهبية والطائفية والعرقية هو من مظاهر الثورة المضادة وكذلك الإستنساب والتشويه الإعلامي في تغطية الأحداث.
وأشار إلى أنَّ القوى الخارجية وفي طليعتها الولايات المتحدة لن تألوَ جهداً في منع أي تغيير قد يعرّض المصالح الإسرائيلية للخطر وخاصة اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل. وأضاف ان واشنطن ستسعى لتأمين مصلحتها في استقرار الأمر الواقع في دول الخليج وبخاصة مصادر النفط والغاز مهما بلغت الحاجة للحد من الحكم القمعي واحترام حقوق الإنسان والحريات ومهما استشرى الفساد في تلك الدول.
وعدَّد خير الله معوقات الإصلاح وبلوغ الأهداف التي رفعتها الإنتفاضات، وهي أولاً تجذر الهويات والإنتماءات الفرعية، وثانياً الفساد وثالثاً الضغوط والمصالح الخارجية. فقال إنَّ الإنتماءات الفرعية المتمثلة بتقديمِ الهويات الدينية والمذهبية والقبّلية في سلّمِ الولاء على الوطن هي وسيلة ضامنة لتشظي المجتمع، لافتاً إلى أنَّ بدل أن تكون الدولة بقوانينها ومؤسساتها تعبيراً عن إرادة المجتمع في تفعيل طاقاته لما هو مصلحة مشتركة، تصبح الدولة وعاءً لتجاذب المصالح الفئوية وتصارع القوى الطائفية. وأشار إلى ان ما يفاقم خطر تسيسس الهويات الفرعية هو فشل الدول العربية في تشكيل مجتمعات موحدة أو أمة مدنية على أساس الإنخراط في مواطنة حقوقية. وأضاف أن ما يفاقم دور هذه الهويات أنها تنتسر وليست الى انحسار، لافتاً إلى أنَّ الطائفية والعشائرية هما في حال كمون في كل البلدان العربية تقريباً، لكن الطائفية كنظام سياسي باتت قائمة في العراق بعد الإحتلال الأميركي وليس في لبنان فقط. وقال إن من خلال خوض الرأي العام العربي بكثافة في قضايا لبنان والعراق يجري تسويق الطائفية، معتبراً أن التجربة العراقية أشد خطراً نظراً لأن العراق كان يهتدي بالقومية العربية كعقيدة ولم تكن الطائفية منتشرة كوعي سياسي.
ورأى أنَّ الديموقراطية التوافقية بين الطوائف وإن كانت تشكل حمايةً من الإستبداد فهي لا تؤسس لبناء دولة قوية متماسكة، وهي ليست ديموقراطية قائمة على المواطنة لأن الفرد هو الموضوع الأساسي للحقوق والواجبات وليس الجماعة والطائفة والعشيرة.
وبالنسبة للفساد أكد خير الله أنَّ هذه الآفة لم تلقَ المقاومة الواجبة في الدول العربية للحدِّ من مخاطرها، وانه وسيلة اساسية للسيطرة في مجتمعات تقوم على الإقتصاد الريعي ويضعف فيها حكم القانون. وقال ان ما يفاقم خطورة الفساد وتجذره هو العلاقة الحميمة بينه وبين هويات التجزئة والإصطفاف الطائفي، مشيراً إلى ان النموذج اللبناني يقدم الدليل الحاسم إذ إنه يكرِّس الزعامات الطائفية، في حين يحمي الإصطفاف المذهبي الفساد والإثراء غير المشروع والمساءلة عن اختلاس مبالغ هائلة من المال العام.
وعن الضغوط والمصالح الخارجية قال إن دولاً الصناعية الكبرى لها مصالح اقتصادية وسياسية في استقرار العلاقة بينها وبين بعض الأنظمة العربية بغضِّ النظر عن مدى تمثيل هذه الانظمة لمصالح شعوبها. ولفت إلى أنَّ الاعلامَ الغربي ومعظم الإعلام العربي الخاضع لأنظمةٍ قريبة من واشنطن ولم يُعرف عنها تمرسها بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، دوراً هاماً في توجيه مسيرة التغيير، مقارناً بين التعامل الإعلامي مع الإنتفاضة في البحرين مقارنة بما يحصل في سوريا. وشدَّد على أن الولايات المتحدة تعمل وبمساعدة محلية على تغييب العروبة وكل ما من شأنه أن يوقظ لدى العربي انتماءً موحداً.
الدكتور رغيد الصلح شدد على أهمية توطيد الديموقراطية وأكَّد أنَّ المطالب التعجيزية في مرحلة ما بعد الثورة هي الوجه الآخر لمطلب إسقاط النظام، لافتاً إلى خطر النزعة الشعبوية التي تدفع إلى محاولة ارضاء الجماهير. واعتبر أنَّ هناك سيناريو “متشائل” بين سيناريوهَين في مرحلة ما بعد الإنتفاضات الأول متفائل يستوحي التجربة التركية والثاني متشائم مستوحى مما يجري حالياً في ليبيا واليمن وسوريا، مشيراً إلى أنَّ الدول التي شهدت أو ستشهدُ تغييراً سوف تواجه تحديات كثيرة منها أولاً، معالجة الاوضاع الناجمة عن الثورات والانتفاضات، وذلك كمهمةٍ ملحة وعاجلة. وقال إنَّ هذه الدول قد تضطرُّ الى دفع ثمنٍ باهظٍ لهذه الثورات والانتفاضات من ناتجها الاقتصادي إذا استمرت الصراعات المسلحة في الدول العربية المعنية كما قال جاستن لين أحد المسؤولين في البنك الدولي. وقال إن التحدي الثاني هو معالجة الاسباب والعوامل التي ادت الى هذه الثورات، مؤكداً أن الامراض الاجتماعية والعلل الاقتصادية والسياسية لم تأت بالضرورة مع امثال الحكام الذين سقطوا بل انها قديمة في تاريخ المنطقة. ورأى ان معضلة النخب الحاكمة العربية انها لم تسر على طريق الخروج من هذه الاوضاع ولا وضعت الحلول المناسبة لها.
وقال الصلح ان الاوضاع الاقتصادية العربية وفرت الارض المناسبة التي نبتت فيها عوامل التثوير الاجتماعي. واضاف ان العديد من المراقبين يتحدثون اليوم عن طابع الثورات المفاجئ ولكن عندما يتتبع المرء تطور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية يجد ان البطالة والفقر والاحوال الاجتماعية الصعبة كانت تتراكم من يوم الى آخر جنبا الى جنب مع ازدياد حدة الازمة الاقتصادية التي ضربت دول الغرب بصورة خاصة. ولفت إلى أنه من البديهي ان هذه الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية اثارت تذمرا واسعا بين سائر المتأثرين بالسياسات المعتمدة من قبل الانظمة، والذين ينتمون الى طبقات وشرائح اجتماعية مختلفة، والى خلفيات ثقافية وسياسية متنوعة.
ولفت الصلح إلى أنه قبل أن تنفجرَ الثورات قدَّم الكثيرون من أصحاب الخبرة والإختصاص مقترحاتٍ بقصد معالجة الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والسياسية البائسة، وأنَّ بعد اندلاع الثورات تجدَّد طرحُ هذه المقترحات التي تؤكد ضرورة الانتقال الى توطيد الديمقراطية في المنطقة وتطبيق مبادئ حقوق الانسان واهمية الاخذ بنظرية السوق الاجتماعي كبديل عن النظريات النيو ليبرالية على الصعيد الاقتصادي. لكنه رأى ان اغلب هذه المقترحات لا تجيب على اسئلة مهمة متعلقة بكيفية تحقيق التنمية المستدامة والنهوض بالقطاعات المنتجة وخاصة في مجال الصناعة بما يؤمن فرص العمل لمليونين ونصف من المواطنين والمواطنات العرب الذين يدخلون السوق كل عام.
وأشار إلى أن حتى هذا التاريخ اتجهت اكثر النخب الحاكمة في المنطقة الى تحقيق هذه الغايات عن طريق تطوير التعاون مع دول الاتحاد الاوروبي، معتبراً ان التجربة خلال السنوات الفائتة اثبتت ان هذا الطريق غير مأمونة لأن الشراكة غير متكافئة بين دول صغيرة وكيان دولي كبير، ومستشهداً برفض الاتحاد اي شكل من اشكال الشراكة مع مؤسسات العمل العربي المشترك، مما سينعكس على قضايا مثل التجارة والهجرة والاقليات الدينية والاثنية.
ودعا الصلح الى التعجيل بتحويل منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى الى اتحاد جمركي فسوق مشتركة، مذكِّراً بأن التعاون الاقليمي سار جنبا الى جنب مع الديمقراطية والتحول الديمقراطي في اوروبا وجنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية واليوم افريقيا