تحليل لبنية السلطة والثورة في سقوط الدولة البوليسية
تونس.. طريق التغيير إلزامي
ينطلق المؤلف توفيق المديني في كتابه “سقوط الدولة البوليسية في تونس”، من النتيجة لكي يبني عليها المقدمات. ففي رأيه أن صراع الطبقات قد انتهى، وأن قوى السوق ستجد حلولاً لمشاكل البؤس والتنمية. ويفسّر قوله هذا بالقول: بدت الثورة الاجتماعية والسياسية شبحاً مطروداً من قبل المدارس الفكرية والسياسية السائدة في عالمنا العربي، لاسيما أن غالبية الأحزاب والحركات الأيديولوجية العربية أيقنت أن الثورة ترقد الآن في مقبرة التاريخ. لكن الثورة التونسية أظهرت خطأ ذلك كله، إذ أثبت المواطنون التونسيون منذ قيامهم بثورتهم الشعبية في 17 ديسمبر 2010، فرض التغيير وتحمل كلفته العالية، منذ أن بدأت الحركة الاحتجاجية ذات الطابع الاجتماعي التي انطلقت من محافظة سيدي بوزيد مسقط رأس محمد بوعزيزي الشهيد الأول للانتفاضة الذي أشعل النار في جسده أمام مقر الولاية، إلى أن هرب زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011.
والأمر الذي له دلالته الكبيرة هو أن هذه الثورة وقعت في بلد كان يتم تقديمه على أنه نموذج اقتصادي ناجح، وقوضت الواجهات الجميلة التي كان يتفاخر النظام التونسي بإبرازها للغرب، لا سيما عندما نزلت الطبقة شبه الغنية في تونس والبرجوازيات الصغيرة والطبقة المتوسطة من التجار ورجال الأعمال إلى الشارع، والتحقت بالثورة الشعبية معبرة بذلك عن سخطها الكامن منذ سنوات على المافيا المالية المحيطة ببن علي وزوجته، وأرغمت الديكتاتور على الرحيل.
ويؤكد المؤلف أن هذا النصر ما كان له ليتحقق، أو على الأقل بالسرعة التي حصل فيها، لو لم يقف الجيش ضد الدكتاتور الذي كان يحتقر الجيش، ويعتمد على أجهزة البوليس قبل كل شيء آخر. والحال هذه، أصبح الشعب التونسي مساهماً أصيلاً في الخبرة العالمية المعاصرة للثورات والانتفاضات الشعبية ضد نمط الدولة البوليسية، وللمطالبة بالحرية والكرامة.
ولم تكن الثورة الشعبية التي أطاحت حكم بن علي البوليسي مؤطرة من قبل الأحزاب والحركات الأيديولوجية التقليدية، التي لم تستطع أن تركب موجة الحراك الاجتماعي وأن تقود المتظاهرين في شوارع المدن التونسية، وهنا تكمن فرادتها الحقيقية مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إذ انها ثورة مدنية لا عسكرية ولا ايديولوجية بالمعايير التي نعرفها عملياً ونظرياً، ولا إسلامياً أيضاً. إذ ان الحركة الإسلامية التونسية لم تساهم في الثورة الأخيرة، ولم يظهر هؤلاء الإسلاميون في التظاهرات، على الرغم من أسلمة المجتمع المتعاظمة في تونس، حيث بلغت نسبة النساء المحجبات نحو 30 بالمئة. ومرد الأسلمة هذه الى فضائيات تلفزيونية عربية وخليجية.
طريق الحرية
ولأول مرة في تاريخ العرب المعاصر، تطيح ثورة شعبية بنظام حكم بوليسي يُعّدُ من أعتى الديكتاتوريات الأمنية العربية. وبذلك تعبد تونس بثورة شعبها طريق الحرية للعالم العربي، لأنها أسقطت نموذج الدولة البوليسية السائد عربياً، والذي يمثل قطيعة جذرية مع نظرية المجتمع المدني. وبالتالي تشكل الثورة التونسية نهاية للخضوع والإذعان في صفوف المواطنين العرب العاديين، الذين ظلوا على خنوعهم على امتداد عقود من الزمن في مواجهة دول عربية بوليسية يدعمها الغرب، وأنظمة حكم تقوم على أساس المخابرات والجيش.
ويشير المؤلف الى أن الثورة التونسية أحيت آمال شعوب عربية أخرى؛ إذ يبدو أن تجربة التحرر معدية، في الوقت عينه في الجزائر ومصر والأردن والمغرب واليمن، وحتى في فلسطين. لكن، في رأيه، أن التجربة التونسية، وتحديداً لأنها غير متوقعة، لا يمكن أن تتكرر بالشكل نفسه في جميع أنحاء العالم العربي. ففي تونس، يعتبر شعبها الأكثر تعليماً والأرقى علمانياً في العالم العربي، إضافة الى كل ذلك، هناك نقابات عمالية قوية تشكل القوة الاجتماعية الأساسية في البلاد، ليست مدجنة، كما هي الحال في بقية البلدان العربية، وهناك جيش جمهوري تكمن وظيفته في الدفاع عن حدود الوطن، إذ يحظر القانون المسن منذ عام 1957 على العسكريين الانتماء إلى أي أحزاب سياسية. ولم يتدخل الجيش التونسي مرّة واحدة ليمارس القمع خلال الاضطرابات التي طبعت تاريخ البلد، من الحركة الطلابية في 1972، إلى ثورة الخبز عام 1984، وصولاً إلى إضراب المناجم عام 2008، صورة حيادية زاد من وهجها موقف رئيس الأركان رشيد عمّار، الذي رفض علناً أوامر الرئيس المخلوع بن علي بإطلاق النار على الشعب.
ذلك أن الدوافع الحقيقية لهذه الثورة التي لم تتوقع السلطات التونسية أن تتطور بهذا الحجم القياسي وتأخذ أبعاداً جديدة، والتي شكلت منطلقاً لهذا الحراك الاجتماعي والسياسي الكبير في تونس خلال الأسابيع الأخيرة، وفي العقود الأخيرة، بأشكال أخرى تشاركهم فيها الشعوب العربية على امتداد العالم العربي، تتمحور حول ارتفاع الأسعار، ونقص الوظائف، ولكنها تتمحور أيضاً كما يقول الكاتب حول الطريقة التي تعامل بها الدول البوليسية العربية مواطنيها، وتنكر عليهم الحقوق الإنسانية الأساسية للمواطنة في حرية التعبير، وإمكانية الوصول إلى تحقيق توزيع عادل لفوائد النمو والتنمية، وموارد الدولة، والفرص التي تتيحها عملية الإندماج في إطار العولمة الليبرالية.
ويذكّر المؤلف توفيق المديني أن الدولة التونسية طغت تاريخياً على المجموع الاجتماعي باسم عقلانية مشروعها السياسي، حيث كان البرنامج الأساس للنخبة الحاكمة بعد الاستقلال يتكون من أهداف التحديث والعلمنة مع مبدأ لـ(الجمعنة) السياسية، إنه الكيان التونسي، التونسي القطري المنفصل عن الأمة الإسلامية وعن الأمة العربية.
وقدمت الدولة التونسية الفتية نفسها على أنها مجموعة من مؤسسات رسالية للتحديث، وضعت نصب عينيها، بصورة خاصة إعطاء الشعب التونسي ثلاثة أشياء مهمة: التعليم وحقوق المرأة ونشر أنماط جديدة السلوك، وفرض نفسها بصفتها مرجعاً لتكريس الرأسمال الرمزي، وبالتالي فرض الرقابة على المجتمع.
وقاد هذ التطور المفرط لدولة الوصاية البورقيبية في الوقت عينه إلى غياب فضاء عام محدد تحديداً متميزاً، ومجهز بقواعده الخاصة وممثليه. ولما كانت دولة الوصاية هذه تشكل وحدة مع جهازها وبيروقراطيتها وغير مفصولة عن المجتمع، فقد عجزت عن أن تكون التعبير المباشر عن الكلية العينية، كلية المجتمع والشعب، لأن قوام هذه الدولة والسلطة المتمسكة بزمامها لم يكن القانون الذي لا يقوم إلا على قاعدة الحقوق. ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه الدولة خارجة عن المحكومين، وهذا التخارج بين السلطة والشعب، وجد التعبير عنه في مركب الدولة الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، الذي أنتج نسقاً سياسياً مغلقاً، أفضى في النهاية، إلى تقلص الدولة في شكل عملية تحرر نسبي لها.
اغتصاب السلطة
ويؤكد المؤلف في سياق تحليله لبنية السلطة في العقود الثلاثة الأخيرة، بأن ليس اغتصاب السلطة، وإعادة اغتصابها من قبل الجنرال بن علي في تونس، سوى حرب على المجتمع وانتهاك لمجاله السياسي، حرب وانتهاك يؤولان بالضرورة إلى احتكار هذا المجال شرطاً لاحتكار الثروة والقوة، أياً كان الاسم الذي يطلقه ذكاء بن علي على عملية الاغتصاب، وأياً كانت الذريعة التي يتذرع بها الغاصبون. فالمقدمات التي قامت عليها سلطة السابع من نوفمبر ظلت ثانوية في بناها تنمو وتتعمق، وظهرت في نتائج سياساتها وممارساتها، وفي علاقتها بالشعب، الذي يفترض أنه مصدر السيادة والشرعية. ويعرض تأسيساً على هذا كله، فإن الكثير من الديمقراطيين التونسيين، وغالبية ماركسيي تونس، الذين يطأطؤون رؤوسهم أمام الوضعانية والمذهب الوضعي، سقطوا في شباك استراتيجية الدولة البوليسية التونسية التي تتزيّا شكلياً، بزيّ الديمقراطية الشعبوية الزائفة، المتجسدة بشخص الرئيس المخلوع بن علي أو بالحزب الواحد الشمولي الحاكم ( التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم).
ويتابع المؤلف: لقد قاد الإرهاب البوليسي شديد الفظاعة إلى إخماد كل حياة ثقافية وسياسية وفكرية للمعارضين التونسيين الفعليين، سواء أكانت سرية أم علنية، وإلزام المواطنين العزّل الذين لا رأي سياسياً لهم سوى سياسة الصمت، والصمت مرض سرطاني خبيث عند التونسيين، والتخلص من أي نشاط سياسي ذي وجود مستقل، وجعل كل الناس عديمي الجدوى. وذلك هو الإرهاب البوليسي الحقيقي الذي يقود الشعب التونسي إلى عالم الموت، حتى يصبح هذا الشعب يشعر بأنه عديم الجدوى في ظل هذه الدولة التي حولت حياته الى جحيم يومي، والى مصنع كبير ينتج العبث يومياً.
ويسأل الكاتب: كيف يكون التحرر من كابوس الدولة البوليسية؟ ويجيب: هذا ما فاجأت به الثورة التونسية العالم العربي كله، التي انطلقت من تلك المحافظات المهمشة والمحرومة سيدي بوزيد، القصرين. وانتشرت الى المناطق الأخرى من تونس…
ففي أجواء إفلاس المعجزة التونسية التي جمعت بين خيار القمع المعمم واقتصاد الإثراء بأي ثمن، وقادت إلى الفساد والاحتقان الاجتماعي والقتل السياسي، أي في الواقع إلى تحطيم القيم الإنسانية التي لا تقاوم من دونها جماعة ولا شعب، قيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة وحكم القانون والمشاركة في الحياة العمومية.
لقد أشار المؤلف كيف ترعرعت مسوغات ما قدمه الشاب محمد بوعزيزي بإقدامه على فعل تراجيدي شديد الرمزية، مكثف الدلالة، بعيد الصدى. وكانت القوة التي لعبت دور المحرك الرئيسي في هذه الثورة، وفي قيادتها حتى سقوط بن علي، هي الحركة الشبابية، أي تلك الفئة الاجتماعية المتكونة من طلاب وخريجي جامعات عاطلين عن العمل، بسبب البطالة الضاغطة التي يعانيها الآلآف من الشباب ذوي المؤهلات العلمية، وتعاظم الإحساس بالظلم الاجتماعي الناجم من حالة الفساد التي عرفتها تونس، واستئثار حفنة قليلة من المستفيدين من نظام بن علي البوليسي بجزء مهم من الاقتصاد الوطني في قطاعات متنوعة، فئة اجتماعية أنانية وليدة نظام فاسد، ووليدة عجزه في آن معاً.
وفي الواقع، نرى كيف يشكل إسقاط الدولة البوليسية التونسية قطيعة معرفية، ومنهجية، وفكرية وسياسية وأخلاقية مع عالم الاستبداد ومنطقه وفكره وسياساته وأخلاقه. لكننا في الوقت عينه لا يجوز أن نكتفي بهذا الإسقاط على الرغم من ضرورته، بل إن المطلوب من المعارضة الديمقراطية أن تقدم تصوراً لعملية الانتقال إلى بناء نظام ديمقراطي جديد في تونس، يمنع العودة إلى دوامة التسلط البوليسي من جديد، ولا يسمح بإعادة إنتاجه، حيث إن الخروج من عالم الاستبداد يقتضي تحولاً جذرياً في الوعي والممارسة. وكلما كان هذا التصور المنشود إنسانياً وديمقراطياً كان مناوئاً للعنف بجميع صوره وأشكاله ودرجاته.
المصدر جريدة الإتحاد عماد جانبيه