من زمان لم أقصد المكان الوحيد الذي يحلو لي منه تأمُّلُ البحر، والمشي أحيانًا.
زرته، عصر أحد، لأرسيَ فيه مراكبَ تعبي الَّتي علاها دخان الحرائق ورغوةُ سياسيِّين وزبدُهم ونثارةٌ من خشب كلامهم ونحاس مواقفهم.
ما إن هممت بركن سيارتي حيث اعتدت، حتى تقدم مني شاب نهض من بين شبان مثله، جميعهم بلباس رمادي، وقال لي: دع المفاتيح، لأركن لك السيارة. أجبته: أفضل أن أركنها بنفسي. تلقف ردي مستدركًا تغير طبيعة المكان علي: لا يمكنك ركنها هنا، ثمة موقف فوق مخصص لذلك.
وفجأة، استحضرت قدموس، فيما تمايل المراكب في ميناء جبيل التاريخي يشد بناظري إلى البحر. وسألته: أليس من هنا، على ما تروي الأسطورة، انطلقتَ لتهدي إلى العالم أعظم اختراع إنسانيِّ، أي الأبجديَّة، ورحت حيث حللت تعلم وتعلي شأن العقل؟ أجابني: بلى… من هنا.
قلت: يا معلمي، ظننت للتو أن اتهامك وأجدادنا اللبنانيين، الذين يسمون أيضًا فينيقيين، بأنكم لم تكونوا سوى تجار، اتهام في محله. وها هو ملعب مغامرتك ينضم إلى لائحة الأماكن والمجمعات السياحية والفندقية والتجارية، والمطاعم والملاهي ومرابع السهر، حيث لا تستقيم الأمور، ولا يكتمل المشهد… من دون فاليه باركينغ، حتى باتت لهذه المهنة شركات متخصصة، تدر على أصحابها أموالًا طائلة.
أجابني قدموس: ما لي ولك يا بني، في ما تقول، وما أدراني بالفاليه باركينغ ومن لفَّ لفه. رسالتي لم تنتهِ بعد، فأوروبا شقيقتي التي خطفها إله اليونانيين زوش، ووجدتها، وأعطت اسمها لقارة، ضاعت من جديد، وعلي أن أجدها، وأعيدها إلى حقيقتها، مستنيرًا بما قاله فيها أمس بابا روما بنديكتوس السادس عشر. إذ أخذ قداسته على قارة العقل هذه “انعدام الشهادة الصادقة فيها على ما هو أساس في حقبة بات الله فيها المجهول الكبير، ويسوع شخصية كبيرة من الماضي فحسب، وجوهر الأزمة الروحية والأخلاقية التي تمزقها هو أن الإنسان يدَّعي حيازة هوية يصنعها بنفسه، فحسب، من دون الالتفات إلى الله”.
ليكمل كل منا طريقه، يا بني.
وإذ أردتُ توضيح موقفي له، ورحت أتمتم، مربَكًا، أنِّي لا أقصد أي إساءة إلى بلدية جبيل التي تسعى إلى تنظيم هذا المرفق الحيوي، ولا إلى مهنة الفاليه باركينغ وضرورة وجودها، ما دامت تؤمن مورد رزق لشبان لبنانيين… غاب قدموس عن ناظري في زِحام صوَرٍ ومحطَّات عن لبنان الذي، من قبل أن يستقلَّ، لم يعبث به ويؤذِه ويدمِّرُه ويقيمُ الحروب فيه ولا يُقعدها، سوى… الفاليه باركينغ.
لبنان، اسمًا وحضارة وتاريخًا، موجود من قبل القوتين اللتين ورثتا السلطنة العثمانية في هذا الشرق، بريطانيا وفرنسا، بكثير. ومذ بات دولة بالمفهوم الحديث، وُضع في عهدة فرنسا، منتدبة عليه، وانضم إلى عصبة الأمم. كان قضية مستقلة، تعني قيام دولة متنوعة، وسط محيط شبه متجانس، قبل أن تجعل السياسة منها جزءًا من قضية أكبر، هي الصراع العربي – الإسرائيلي.
في كل المراحل التي رافقت الكيان اللبناني، حتى اليوم، كان ثمة فاليه باركينغ يكلفه ربُّ العمل الدولي، وهو غالبًا قوة عظمى، أخذ تلك القضيَّة ليركنها في موقف يخدم به مصلحة من استخدمه، ومصلحته هو طبعًا.
مع إعلان دولة لبنان الكبير، كان رب العمل هو نفسه الفاليه باركينغ. أخذت فرنسا لبنان (وسوريا) على عاتقها، فيما تولت بريطانيا على فلسطين والعراق، وارثتين سلطة بني عثمان.
وحين اصطدمت مصالحهما، نفد لبنان باستقلاله عام 1943، ولكن بقيت وظيفة الفاليه باركينغ مع فرنسا، حتى جلاء جيشها عن أراضيه آخر يوم من العام 1946.
ظن الوطن الوليد أنه بات سيد أمره، وأن ساحاته كلها ملكه، فإذا بنكبة فلسطين تحل، عام 1948، على المنطقة بأسرها، ويعاني هو تداعياتها وانعكاساتها، حتى الساعة، ليصبح ساحًا لمن يريد أن يركن قضية في موقف.
تنازعته الأحلاف في الخمسينات، وتجاذبته رياح صحراوية ومصرية وسورية وإسرائيلية، كلها عملت في مناخ الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، على زعزعة نسيجه.
وقعت حرب الأيام الستة عام 1967. خسر العرب حربهم مع إسرائيل. سرق “أبو عمار” مفاتيح السيارة اللبنانية، ليشفِّط بها ويصول ويجول، وسط حماسة عربية، وصراع ديكة دولي، حتى ظن نفسه الفاليه باركينغ الوحيد، في الموقفين اللبناني والإقليمي. عرف مكانه، أن لبنان سيكون بديلًا من فلسطين، فتدلَّل.
وكانت حرب تشرين عام 1973. انتصار عربي، ولو جزئيًّا، دفع أنور السادات، رئيس مصر، إلى طرق باب التسوية مع إسرائيل، على ما بدا منذ عقد مؤتمر في جنيف، عام 1975. لا بد، إذًا، من غبار يذرُّ في العيون، ليكمل مهمته، فوقعت حرب لبنان، ذاك العام. حرب لم يبق مشارك فيها، دعمًا أو تسليحًا أو تأجيجًا للنار، من أفرقاء دوليين ومحليين، إلا ظن نفسه الفاليه باركينغ الوحيد. تدخل العرب ثانية، وتمخضوا عن قوات ردع عربية، عام 1976، وضعت المفاتيح في أيديها.
انفصل السادات بمصر عن العرب. زار إسرائيل، ثم وقع معها سلامًا. تحول عرب آخرون، ومنهم سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية، رأس حربة في مواجهة هذا المسار. لبنان ساح مفتوحة، والفاليه باركينغ السوري والفلسطيني ملك تلك الساح على بياض. ثم جاء الفاليه باركينغ الإسرائيلي، مرتين، عام 1978 بداية، ثم عام 1982. كان ثمة إحساس أن سبحة السادات ستكر، والحبة التالية فيها لبنان.
فرط الرهان. وعاد الفاليه باركينغ السوري يفرض نفسه، حتى دنت له السيطرة، بعد اجتياح صدام حسين الكويت، وانضمام دمشق إلى المحور الغربي العربي الذي دخلها لتحريرها منه، فكوفئت بأن أطلقت يدها في لبنان، وأغريت بدخول مؤتمر السلام في مدريد، عام 1991.
خمس عشرة سنة والفاليه الباركينغ السوري وحيد، برضا أميركي وغربي وعربي، يناوشه الفاليه باركينغ الإسرائيلي من حين إلى آخر، كلما تعقدت المفاوضات المنبثقة من مؤتمر مدريد، خصوصًا بعدما تفرد أبو عمار ومن ثم الأردن بتوقيع سلام مع الدولة العبرية. جاءت عملية 11 أيلول 2001، واختلطت الأوراق. اجتاحت الولايات المتحدة أفغانستان (لمطاردة أسامة بن لادن الذي عمل لها فاليه باركينغ طويلًا ثم انقلب عليها)، ومن ثم العراق. وباتت سيدة على منابع النفط من دون منازع. وفي لحظة التقت فيها مصالحها مع نضال اللبنانيين لتحرير وطنهم، استعادت الولايات المتحدة المفاتيح من الفاليه باركينغ السوري، ودعته إلى المغادرة. كان يلملم أغراضه ليرحل، في النصف الأول من العام 2005. قتل الرئيس الحريري، فسرعت خطى الانسحاب.
تحرر لبنان. لكن رب العمل الأميركي شاء أن يؤدي هو دور الفاليه باركينغ وما زال. وكل ما نشهده، ليس سوى جمل اعتراضية، بين هلالين كبيرين، من أجل تحقيق مشروعه للشرق الأوسط، بما يبقيه مالكًا منابع النفط، وحارسًا لأمن إسرائيل. وعلى رغم تراجع قوته، وبروز قوى دولية كسرت شوكته في أكثر من مكان، ولاسيما منها روسيا والصين، يستمر في دور رب العمل – الفاليه باركينغ، ليضغط على معارضيه، ويحد من الخسائر، ليس إلا، في انتظار استنهاض داخلي ما، أو تسوية مع قوى دولية وإقليمية (وفي مقدمها إيران)، لعلَّ وعسى.
“ليس غريبًا، وسط لعبة أمم كبيرة، أن يكون وطن صغير كلبنان، وطن الفاليه باركينغ. لكن الأغرب أن بين سياسييه من يتباهى بأنه فاليه باركينغ لدى الفاليه باركينغ أيًّا تكن هويته، ويستقتل في سبيله من أجل “قرشين نضاف”… وتلك مصيبة لبنان”.
جملة نزل وقعها عليَّ كالصاعقة. تلفتتُ لأعرف مصدر الصَّوت، فإذا بقدموس، وقد عاد إلى حيث ركنت سيارتي في موقف لا فاليه باركينغ فيه، يسرُّ إليَّ بهذا الكلام.