سليمان عبد المنعم يتتبع أزمة الدولة والمجتمع في المفاهيم والممارسات حيرة المسؤولية والمساءلة

Thursday, 26 July 2012, 0:03

يخلص المؤلف سليمان عبد المنعم في كتابه “الدولة المأزومة والمجتمع الحائر” إلى أن جزءاً من أزمة الدول العربية يكمن في ظاهرة شيوع المسؤولية وغياب المساءلة. “شيوع المسؤولية يعني أننا نعرف حجم الكوارث وعدد الضحايا، لكننا لا نعرف في الكثير من الأحيان من هو المسؤول! أما غياب المساءلة فيبدو في ذاته منطقياً لأن السلطة التي تنتج الفساد يصعب عليها أحياناً مكافحته. وفي الحالتين فقد كنّا سلطة ومجتمعاً أبناء ثقافة التنصل من المسؤولية. وهي ثقافة عربية عدمية مغايرة تماماً للثقافة اليابانية على سبيل المثال. ثم أنها ثقافة تخلو من الشجاعة. هذه الشجاعة التي لا نكلّ ولا نملّ من التغني بها. جزء آخر من الأزمة الحاصلة في حياتنا أننا نخلط في الكثير من الأحيان بين الأسباب والنتائج. ننشغل بأعراض المشكلة ونهمل جذورها. نعالج مظاهر أمراضنا الاجتماعية ونتجاهل مسبباتها. كأننا نمارس طب التجميل مع أننا نحتاج إلى طب الحالات الحرجة. يحدث هذا في مجالات التعليم، والادارة، والبطالة، ومكافحة الفساد، وغيرها”.

ويقول المؤلف أيضاً: أنتجت أزمتنا حيرة عميقة. ثم أسئلة لم نتوقف عندها بما فيه الكفاية، هل يعني اصلاح السلطة تلقائياً وبالضرورة صلاح المجتمع؟ ومن الذي يفسد الآخر: هناك أمثال ومقولات لتبرير هذه الإجابة أو تلك. فمن يرون أن فساد السلطة هو السبب يقولون إن السمكة تفسد من رأسها! ومن يعتبرون أن فساد المجتمع هو الأصل يرددون: كيفما كنتم يولى عليكم. فما الحلّ إذن؟

فلنعترف أننا سلطة ومجتمعاً نتقاسم المسؤولية عما آلت إليه أحوالنا. فوراء كل سلطة مستبدة وفاسدة مجتمع أو بالأقل نخبة ارتضت بذلك وشرعنته واستفادت منه.

ويسأل المؤلف: ألم يكن هيدجر الفيلسوف الألماني هو الذي وضع هتلر فوق المساءلة؟ وألم تكن جماعة التوريث في مصر فيما عرف بلجنة السياسات من أساتذة جامعات وكتّاب ومثقفين هم الذين أوعزوا الى جمال مبارك بحلم التوريث السياسي؟ يقولون في علم القانون الجنائي إنه لولا المحرض على الجريمة لما كان الفاعل الأصلي أحياناً. ويمكن أن نضيف إنه لولا ثقافات بعض المجتمعات لما وجدت الأنظمة المستبدة أو الفاسدة، أو على الأقل لما تهيأ لها الاستمرار.

الإغواء والتمكين

جزء من أزمتنا، في رأي عبد المنعم، أن هناك علاقة إغواء وتمكين. إذ على مدى خمسين عاماً لم تكن مقولة شعبية عبقرية تلخص الحال في مصر مثل مقولة “شيّلني وأشيّلك”، والتي كانت عنواناً لأحد الأفلام المصرية. العبارة تعني في بساطة أن الفساد يتآخى ويتآزر. هناك دوائر أخرى حولها.. ثم تقوم هذه الدوائر بالفعل ذاته وتنقله إلى دوائر تالية، وهكذا تتكون نخبة سميكة، ملتصقة ولزجة في تحالفاتها. هذه النخبة الانتهازية بحكم قانونها غير المكتوب لا تقبل الغرباء في صفوفها، فإما أن تلوّثهم معها، وإما تدفعهم الى الفرار. النخبة إذن أصبحت نخبتين: نخبة تدور في فلك الحاكم، تحجب عنه الحقائق وتزيف له الواقع، لتخون بذلك واجبها في نصح الحاكم وتبصيره، ونخبة أخرى محبطة إما تعاني الاغتراب الداخلي من دون أن تغادر الوطن، وإما تؤثر الاغتراب الخارجي بحثاً عن ملاذ مادي أو نفسي. توجد استثناءات بطبيعة الحال في أوساط كل من النخبتين، لكن الأحكام كما يقول علماء الأصول تبنى على الغالب الأعم وليس على مجرد الاستثناءات.

وفي رأي المؤلف، إنه لا بد من الإقرار أنه بصلاح الاثنين معاً: السلطة والمجتمع تنهض الدول وتتقدم، وبفسادهما أيضاً تنتكس وتتخلف. فنحن لا نكاد نعرف في التاريخ سلطة ظالمة لمجتمع من الأحرار والأخيار، بقدر ما أننا لم نعرف أيضاً سلطة عادلة لمجتمع من اللصوص الأشرار. للدولة سلطات ودور ومؤسسات، وللمجتمع ثقافة وقيم وقدرات…

ويسأل: كيف حال الدولة والمجتمع اليوم؟ ويجيب: ينبئ واقع الحال أن الدولة العربية مأزومة والمجتمع العربي حائر. أزمة الدولة العربية أنها وصلت إلى نهاية طريق مسدود لا تتيح خيارات كثيرة. فإما الإصلاح أو الثورة!

الإصلاح بحكم اللزوم العقلي يتطلب حلولاً جذرية لمشكلات عميقة ومزمنة. فهل يمكن لمن كان جزءاً من المشكلة أن جزءاً من الحل؟ نظرياً، ليس هناك ما يحول دون ذلك. لكن من الناحية الواقعية هذا يتطلب مؤهلات كثيرة من إرادة سياسية، وشجاعة أخلاقية، وانحياز بلا تردد للمصلحة الوطنية… فهل يتوافر هذا؟

تناول الثورة البديل الثاني فتعني بحكم التعريف والمنطق التغيير الراديكالي والقطيعة مع الأوضاع السابقة التي استمرت في الدولة العربية الحديثة لما يقرب من خمسين عاماً أو يزيد. وثورة بهذا المعنى لا بدّ وأنها تهدد مصالح البعض وتقلق البعض الآخر. التهديد بمنطق الأشياء ينصب على مصالح قوى كبرى مهيمنة. لهذه القوى مصالح سياسية واسترتيجية واقتصادية في منطقة كانت ثروتها وموقعها نعمة ونقمة في آن معاً. وللثورة تطلعاتها الوطنية والقومية المشروعة وإلا ما اكتسبت بالبداهة وصف الثورة. فالطبيعي أن يقود منطق الثورة عاجلاً أو آجلاً إلى المطالبة باسترداد الحقوق الفلسطينية، والسعي لإقامة نموذج تنموي وطني، وربما محاولة إقامة تكتل عربي أو تضامن إسلامي. فهل لا يمكن للقوى الكبرى القبول بمثل هذه التطلعات والطموحات العربية؟ جزء من مشكلة القوى الكبرى الغربية أن الثورات العربية قد كشفت عنا تعانيه من حيرة وتناقض وربما انفصام.

كما يشير عبد المنعم الى الغرب كيف يؤيد بعواطفه الثورات العربية، لكنه بعقله السياسي يتوجس منها. ونحن كعرب حائرين بين عاطفة الغرب وعقله السياسي. العاطفة الحضارية للغرب أعطت ثوار مصر بيانات التأييد وعبارات الاعجاب، لكننا لا نعرف ماذا يخبىء عقله السياسي؟!

أما القوى الكبرى الآسيوية مثل الصين وروسيا فيبدو أنها تحمل قدراً من الجفاء والنفور لا تخطئه العين من الثورات العربية. مشهد الميادين الغاضبة والمظاهرات المليونية لن يسعد الصينيين والروس. من الناحية الداخلية هذا فأل سيئ إليهم! ففي عصر الصورة المؤثرة والسماوات المفتوحة، لا بد وأن الشعوب تتعاطف وجدانياً وتتفاعل عقلياً. الشعوب تساءل نفسها كلما رأت شعباً آخر يثور.

تجليات الأزمة

ومن هنا يذكر بأنه في بلاد العرب تتعدد تجلّيات الحيرة ونحن مازلنا نتساءل بعد أكثر من قرن من الزمان أن لماذا تخلّفنا وتقدّم غيرنا؟ وفي الإجابة عن السؤال لم نحسن التقاط الأولويات. لم نفكر مثلاً كيف يمكننا الاستفادة من تجربة النهوض الصيني العظيم. أخذتنا الفروع على حساب الأصول، وتقدّمت المظاهر على المضامين، والثانويات على الجوهريات. حين فكرنا في الوحدة تصوّرنا أنها تعني التطابق، وحين اكتشفنا اختلافنا واجهناه بالشكوك ومحاولات الاقصاء المتبادل، واستعنّا بالآخرين على بعضنا البعض، ثم رحنا نتساءل أن لماذا تمدّد الآخرون في ديارنا؟ نسينا أننا نخرج من جلودنا ونشاهد في ذهول تفتت أوطاننا. نصطنع التناقض بين انتمائنا الوطني وبين قيم التقدّم الانساني، وهي من صلب حضارتنا العربية الاسلامية التي ازدهرت زمناً. ثم نتساءل في خوف هل تصمد العروبة في مواجهة الشرق أوسطية؟ فلم نحسن توظيف تنوعنا، وتجاهلنا أحياناً حقوق إخوتنا في الوطن. مارسنا التمييز والتفرقة. اعتقدنا أن كرامة الوطن لا تكون إلا انتقاصاً من كرامة الانسان. لم ندرك بعد أن المواطنة هي سفينة نوح التي ستعصمنا في عصر الطوفان. والطوفان هو العولمة، والعولمة بتعبير وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر ليست سوى الاسم المهذب للأمركة!

وعلى الرغم من احتضان المؤسسة العسكرية وانحيازها للشعب ولثورته، وكان بوسعها ألا تنحاز، فإنها جنباً الى جنب مع الحكومة المؤقتة التي تمّ تشكيلها مازالا يدوران في فلك الأزمة إياها: شيوع المسؤولية ، وغياب المساءلة. والانشغال بأعراض المشكلة على حساب أسبابها، ومعالجة المظاهر وإهمال الجذور. والأخطر من كل ذلك إدارة الثورة وكأنها حركة تطوير إداري في إحدى المؤسسات أو الشركات. والدليل المقلق وربما المفزع على هذا الخطر هو التهم التي يحاكم عنها الرئيس السابق، مع أن تهماً أخرى، أصيلة، وجسيمة، ومبررة بنصوص القانون وشواهد الواقع لم تشغل بال أحد، ولا حتى فريق الدفاع عن ضحايا الثورة!

أما عن حيرة المجتمع فقد بلغت ذروتها واكتسبت أشكالاً شتّى. تفتت ضمير الثورة الجمعي إلى ضمائر. واحترام الجدل بين الضمائر فاندلعت حروب التخوين، وهي أحط أنواع الحروب التي تمارسها الأفكار وحين اشتد الجدل حول تعديل الدستور كانت الأشكال، كما العادة، تتقدم على المضامين، والأسماء على المسمّيات.

وفي النهاية يسأل المؤلف: هل مصر دولة دينها الإسلام، أو ذات مرجعية إسلامية، أو دولة مدنية، أو ديمقراطية؟ ولم نحاول قط أن نناقش أولاً مضامين كل هذه المصطلحات قبل الاختلاف عليها. على أن الحيرة الكبرى في اللحظة الراهنة هي حالة الشك في الذات التي أخذت تتسلل شيئاً فشيئاً من أحداث الفوضى والقلاقل في الميادين والشوارع لتستقر في روح الكثير من المصريين وربما العرب حول جدوى الثورات! نجحت الثورة في الشوارع والميادين. فرّ حكام، وسقط آخرون. لكن تبقى ثورة أخرى مطلوبة على أنفسنا وعاداتنا وسلوكياتنا وطريقة تفكيرنا. هذا هو التحدي الذي يواجهنا اليوم. لأنه من هنا نفض إشكالية العلاقة الملتبسة بين السلطة المأزومة والمجتمع الحائر.

الكتاب: الدولة المأزومة والمجتمع الحائر

المؤلف: يليمان عبد المنعم

الناشر الدار العربية للعلوم ناشرون

المصدر: جريدة الاتحاد الاماراتية  – عماد جانبيه

Leave a Reply

إضغط هنا

Latest from Blog

أم عبدالله الشمري تتحدث عن الشهرة والعائلة والتحديات في أولى حلقات “كتير Naturel”

استضاف برنامج “كتير Naturel” في حلقته الأولى، الذي يُعرض عبر تلفزيون عراق المستقبل من إعداد وتقديم الإعلامي حسين إدريس، خبيرة التاروت أم عبدالله الشمري. وتحدثت أم عبدالله بكل صراحة عن مسيرتها، الشهرة،

رامونا يونس: العناية بالبشرة هو استثمار..

ولعدم النوم أبداً دون ازالة الماكياج! في عالم الجمال والعناية بالبشرة، برزت أسماء كثيرة، لكن قلة من استطعن الجمع بين الاحترافية والشغف الحقيقي بما يقدمنه. من بين هؤلاء، السيدة رامونا يونس، الناشطة

زخم الرئاسة الاولى وتحقيق الاستقرار المالي والنقدي – بقلم العميد الدكتور غازي محمود

يعيش لبنان منذ انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية عرساً حقيقياً، ويشهد زحمة مهنئين شملت كل من الرئيسين الفرنسي والقبرصي بالإضافة الى امين عام الأمم المتحدة، وكل من وزير خارجية الأردن ووزيرة
Go toTop