رسالة اعتذار… إلى جورجيت وجنيفر – حبيب يونس

147 views

باسم تراب مقدَّس، وُصف بأنه جنة الله على الأرض، هو أرض لبنان،

وباسم شعب، نادى قبل أن تكون هناك حضارة إنسانية، بالمحبة والسلام، هو شعب لبنان،

وباسم جرح هو صنو الخطر، مذ كان لبنان وشعبه بيتهما الخطر، وسيبقيان بيتهما الخطر،

نعتذر منكما… جورجيت سركيسيان شهيدة انفجار الأشرفية، وجنيفر شديد زهرة الأعوام العشرة الراقدة في المستشفى، وقد اختصر جسدها الممزق جراحات عشرات ممن طاولتهم تلك الجريمة الإرهابية، وبقي كثر منهم مجهولين، ربما لأن الشاشة والهواء والورق لم تعد تتسع إلا للصراخ والفجور، فأسقطت أسماءهم.

إعتذار، يا جورجيت، من بُنِّ قهوتك التي ستشتاق إلى يديك تقدمانها إلى زملائك في المصرف، مُرَّة مثل هذه الأيام، أو حلوةً كابتسامتك، أو وسطًا وسطَ هذا الجنون الذي يلفُّنا؛ واعتذار من لقمة مغمسة بعرق الجبين، هرعت من حيث تعملين، خلال فرصة الظهر، إلى منزلك تعدِّينها وتقدمينها، فَرِحَةً، إلى فلذتي كبدك… فتحولتِ، بلمح بصر، وليمةً لسفَّاحٍ لم يرتوِ بعد من دماء وأشلاء وفتن.

واعتذار يا جنيفر، من مريول مدرستك المخيط بحرائر الأحلام، والمزين بفراشات تنبئ ببداية ربيع العمر، ومن دفاترك التي تناثرت “فَرق ورق” في حسابات المجرمين، ومن كتبك التي سقطت حروفها صريعةً، في صفِّ دمٍ لم تَخَلْ ضفيرتاك أنهما ستتلطخان به يومًا… فتمددتِ على سريرٍ في العناية الفائقة، على رغمك، والجراح تنهش جسدك الطري، من جبينك الموشَّى بغُرَّة تُغري النسائم، إلى أصابع رجليك التي تشتهي الأرض أن تقبلها إصبعًا إصبعًا.

جورجيت وجنيفر… أنتما كلُّ لبناني، وكل قاطنٍ في لبنان، مذ تحوَّلت أرضُه مسرحًا للحروب، تحصد من بنيه كل يوم بريئًا وأكثر، وقد افتديتمانا جميعًا، بالشهادة وكثير الجراح.

فمعذرة منكما، لأننا مثلكما لم نكن ندري – لنحذِّركما مسبقًا – أن سيارة رئيس فرع المعلومات (اللواء الشهيد وسام الحسن) ستمر في الحي حيث تقطنان، بين واجب جورجيت في تحضير الطعام وفرحة جنيفر بالعودة من المدرسة، فيحصدكما وعشراتٍ غيركما، بينهم مرافق رجل الأمن القوي (المؤهل الأول الشهيد أحمد صهيوني)، إرهابٌ متربص بشعبنا وأرضنا وطمأنينتنا وسلامنا منذ عقود. ذنبكما أنكما كنتما، ربما، في المكان “الخطأ” (حيُّكما ومنزلاكما!) والزمان الخطأ، على مرمى نارِ مَن أراد تصفية حساب مع قائد أمني يتنكَّب مسؤولياتٍ جسيمة وملفاتٍ كبيرة، وينام والخطر في سرير واحد.

ومعذرة منكما، جورجيت وجنيفر، أن اسميكما وأسماء ضحايا ذاك الجمعة الأسود، سقطت سهوًا، عفوًا سقطت عمدًا، من حسابات مسؤولين ووسائل إعلام كثر، لأنهم فضلوا عليكم جميعًا، وتحت ستار مواكبة الحدث الجلل، التحليل والتنظير والاتهام وتحضير الأرض للانتخابات، وحلقات “التوك شو” التي لم تكتشف يومًا قاتلًا، ولا أعادت شهيدًا إلى الحياة، ولا بلسمت جرحًا.

ومعذرة منكما، جورجيت وجنيفر، أن كثرًا ممن يتولون أمرنا، سياسيًّا، يصطفُّون ضمن طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم، بل حتى ضمن أزقتهم السياسية الضيقة، وينسون أنهم، وفي أي موقع كانوا، مسؤولون في الوطن، وعن كل شعبه، وإلا لما أقسم رئيس الجمهورية على الحفاظ على دستور الأمة اللبنانية، ولا سُمِّي النائب المنتخب في دائرته نائب الأمة اللبنانية، ولا شملت مسؤولية رئيس الحكومة والوزراء رسم السياسة العامة للدولة وتوفير الخدمات لأبناء الأمة اللبنانية. وشتَّان ما بين مفهوم الأمة الجامع، ومفهوم الملَّة الضيق.

ومعذرة منكما، جورجيت وجنيفر، أن كثرًا بيننا لم يعتبروا مما سبق من تجارب ومآس وحروب، فإذا بهم ينقادون إلى معارك عبثية، عناوينها براقة ربما، ومطالبها تبدو لرافعيها محقة، فيتحولون وقودًا لفتنة تحصد في طريقها أبرياء مِن مثلكما، وتهدد بجعل كل منا شهيدًا أو ضحية مع وقف التنفيذ.

ومعذرة منكما أن ما من مسؤول أو مواطن غير أقاربك يا جورجيت، شارك في جنازتك ودفنك، في بقعتوتة الكسروانية، وما من مسؤول أو مواطن من غير أقاربك يا جنيفر عادك وأنت على سرير الألم والرجاء بتجاوز الخطر والعودة إلى الحياة، ولو مثخنة بالندوب والمرارات.

عزاؤنا يا جورجيت، في رسالة الاعتذار هذه، قول مار بطرس إن الموت فوق عقل البشر، ونحن بشر؛ وقول أفلاطون إن وحدهم الذين ماتوا شهدوا نهاية الحرب. وإذا كان القديس وارطان ألَّف، قبل ستة عشر قرنًا، الأبجدية الأرمنية، فأنت أضفت، للأيام الآتية، حرفًا إلى أبجدية الشهادة، قدر شعب لبنان.

وعزاؤنا يا جنيفر، في رسالة الاعتذار هذه، أن جراح الطفولة، ولو عميقة، أيقونات على صدر الوطن، تحميه مثلما يروي دم الشهادة ترابه. ويكفيك يا صغيرتنا، فخرًا ولو متوجًا بالألم، أنك، إذا ما نسينا أو تناسينا، ستبقين صوت ضمير يردعنا، حين نتمادى في لعبة قتل الوطن ووحدته ووحدة بنيه، كل من أجل غاية أو مأرب، فتدليننا إلى أي مسامٍ في جسدك، وتقولين لنا: ألا تريدون أن تكون هذه الندبة آخر الجراح؟

وأخيرًا، معذرة منكما، جورجيت وجنيفر، إذا أمعن كثير صراخنا في إثبات عجزنا عن اكتشاف المجرم، وإذا أضعنا الحقيقة بين كرسيِّ حكم وإرضاء حاكم.

لعلنا، هذه المرة، ولو مرَّة، نرفض أن تبقى الشهادة خبرًا في صحيفة قديمة، قد يكون عن أيٍّ منا، فنقرأه… كَمَنْ “عاشوا وما شعروا، ماتوا وما قبروا”. بل نجعلها عنوانًا لكتاب لبنان الذي يولد، كلَّ يوم، من رحم المأساة، أقوى من المأساة، لأننا أبناؤه، و”سوف نبقى، يشاء أم لا يشاء الغير”، و”ما من حقٍّ (في الأرض) ولم نبقَ نحنُ”.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Previous Story

صنابير “أُندس فيرس” ورشاشات الاستحمام “رين شاور سولو” الرقمية من GROHE

Next Story

مؤسسة كوكاكولا تتعاون مع “إنجاز العرب” في نشر برنامج “أمواج فرح” عبر كافة مجتمعات الشرق الأوسط

Latest from Blog