أحاديث وأحداث، قصص وأخبار، طرائف وأمثال جمعها “سلام الراسي” عن ألسنة الناس لئلا تضيع.
رادار نيوز – نقولا طعمة من مزرعة ” الخريبة ” التي هاجر جميع سكانها فأصبحت إسماً على مسمّى، هاجر هو بدوره إلى كندا حيث أصاب نجاحاً لا بأس به، وعاد بعد خمس وأربعين سنة مع إمرأته واستأجر بيتاً في ابل السقي، واشترى فرساً كان يركبها يومياً في نزهة إلى مسقط رأسه.
عاشرت الرجل وأحببته فبادلني المودة وأنزلني من نفسه منزلة الصديق وأفضى إليّ ذات يوم بسرّه الدفين، قال : ” كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما هاجرت إلى كندا، وكان والدي فلاحاً في الخريبة وكانت هوايتي الوحيدة ” فخاً ” احمله معي، عندما كنت أخرج يومياً لأرعى بقرات والدي، فأنصبه عند مضارب عصافير ” الرمّود “.
وفيما كانت بقرات والدي ترعى بين أشجار الزيتون، كنت أنتقل باحثاً عن رمّود، فأشرّع بالغناء له حسبما يفعل صبيان القرية الذين ينشدون أغنية خاصة للرمّود وأخرى لأبي الحن وثالثة للعضويضة، إلخ…
وكنت أعتقد أن الرمّود كان مجنوناً بأغنيتي وإلا فلماذا يحرك ذنبه ويقفز أمامي باتجاه الفخ الذي سرعان ما يطبق عليه وتتم الغنيمة الكبرى.
وكان أبي قد اشترى بقرة من رجل من آل العدس من راشيا الفخار وكانت كلما غضضنا الطرف عنها تهرب إلى راشيا حيث تركت عجلها عند صاحبها الأول وكان والدي يتجشّم متاعب أعادتها ويوبّخني على إهمال البقرة والتلهّي بالفخ اللعين.
وفي ذات يوم نصبت فخي تحت قرعوشة أبي عسكر وهي إحدى أفضل مضارب الرّمود في تلك الناحية، ومضيت أبحث عن رمّود جديد.
ثم افتقدت البقرة فلم أجدها، فهرعت وراءها باتجاه راشيا حيث وجدتها قد سبقتني إلى بيت العدس.
ورفض السيد العدس أن يسلمني البقرة وقال : ” اذهب وقل لأبيك أن يأتي ويسترجع ثمنها، فإن بيعها لا يحل بعد الآن “.
وخشيت أن أعود إلى الخريبة، ولجأت إلى بيت أحد أنسبائي في راشيا.
وسوّيت المشكلة بين والدي وبين آل العدس إلا أنها لم تسوّ بيني وبين والدي الذي أقسم أمام أهالي راشيا على شدّ وثاقي إلى ساق قرعوشة أبي عسكر وتعليق الفخ في عنقي لأكون عبرة لكل ولد طائش.
وأرسلت تهديداً إلى والدي بالإنتحار في غدير ” الشاغوريّة “، إذا لم يرسل إليّ سبع ليرات ذهب بها إلى كندا، فلم يأبه بتهديدي إلا أن والدتي أرسلت إليّ ما طلبت سراً، فسافرت مع بعض المسافرين من أهالي راشيا.
وضربت في أرجاء كندا ودرجت في مختلف مراحل الحياة ، وحالفني الحظ فتوفقت بأشغالي، وتزوجت ورزقت أولاداً ربيتهم تربية صالحة فانطلقوا في سبل النجاح، وأسدلت ستاراً على ماضي حياتي، وتناسيت ذكريات طفولتي القائمة.
وشعرت أخيراً بالإكتفاء فتركت أشغالي لأنصرف مع امرأتي إلى العيش بهدوء وسكينة.
وسهدت ذات ليلة، فوجدت نفسي على غير قصد مني محمولاً على أجنحة الماضي وإذا بي بعد خمس وأربعين سنة أتذكر قريتي النائية وخيّل إليّ أني أرى والدي بقامته الفارعة وثيابه الخشنة، وأخذت صورته تزيد وضوحاً، فبدت قسمات وجهه متجهمة قاسية وخلته يصيح به : ” كيف أهملت البقرة أيها الولد الطائش “.
وارتعدت فرائصي لهول هذه الذكرى وحاولت أن أطرد هذه الرؤيا فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، ونمت بعد مجالدة شاقة إلا أني لم البث أن أفقت مذعوراً على صوت انطباق فخّي العزيز.
فقد رأيت في منامي قرعوشة أبي عسكر والفخ منصوباً تحتها والرمّود يقفز أمامي ثم يقع في الفخ الذي أحدث انطباقه صوتاً أجفلني وحرّك جميع مشاعري. وتذكرت حينئذ أني تركت الفخ منصوباً تحت قرعوشة أبي عسكر منذ خمس وأربعين سنة.
ماذا حدث للفخ يا ترى؟ قد يكون أحد صبيان القرية وجده منذ زمن بعيد، وقد يكون ما زال مطموراً في التراب حتى يومنا هذا.
وصار الفخ يعذبني، وبت كلما أغمضت أجفاني أرى صورته ماثلة أمامي وأخذت تنجلي صور الماضي البعيد في مخيلتي فأرى صبيان القرية أترابي يركبون على الجحاش العارية والصبايا يسرن باحتشام والجرار الملأى على رؤوسهن إلا أن صورة قرعوشة أبي عسكر بقيت أكثر هذه الصور وضوحاً حتى صرت كلما غفوت سرعان ما أفيق على صوت انطباق الفخ الذي استعبدني وأفقدني طعم الراحة التي كنت قد وعدت نفسي بها بعد جهاد طويل.
وقلت أخيراً : ” اذهب يا رجل وفتش عن الفخ “.
وأقنعت زوجتي بزيارة لبنان وبالتفتيش عن الأملاك التي تركها والدي في الخريبة حيث لم يبقَ أحد من أهلي فيها.
وجئت إلى ابل السقي وابتعت فرساً كما تعلم، وصرت أذهب يومياً إلى الخريبة وأطوف حول قرعوشة أبي عسكر وأجيل نظري تحتها مع علمي الأكيد بأني لن أجد شيئاً.
هذه هي قصة الخواجة نقولا التي استودعنيها أمانة غالية، قبل عودته إلى كندا، وطلب مني أن لا أبوح بها إلى أحد خوفاً من أن يتهمه الناس بالجنون.
ولكن قصة الفخ أخذت تغذبني أنا أيضاً، ماذا يمكنني أن أفعل لأختم قصة هذا الرجل المعذب؟
ليتني أحضرت فخاً ونصبته تحت القرعوشة ساعة مجيئه، ويا حبذا لو أنني استطعت أن ألفّق أية قصة عن مصير الفخ.
وانتابني قناعة بأن الرجل عاد إلى كندا مغلوباً في معركة الفخ، وبأنني تخاذلت أنا أيضاً عن تقديم العون الذي إنما كان يطلبه مني عندما أطلعني على دخيلته.
ومرّت سنوات، وإذا بي يوماً أرى فلاحاً يحمل فخاً قديماً كاد الصدأ أن يأتي عليه وقد وجده مطموراً في التراب.
فقبضت على الفخ وسرت تواً إلى منزل أحد أنسباء الخواجة نقولا لأسأله عن عنوانه، فإذا به يقول : ” إذن فقد علمت بوفاته وتريد أن تكتب إلى زوجته معزياً ” .