لقد كانت الحياة في العصر الجاهلي مليئة بالحروب التي اشتهرت باسم “أيام العرب” وقد وصلت هذه الأيام إلى أكثر من ألف يوم، ومن أشهرها حرب البسوس ، وواقعة ذي قار.
وترجع كثرة الحروب في العصر الجاهلي إلى عدة أسباب منها:
1) قلة موارد العيش في الصحراء ، فكانت الحروب بغرض السلب والنهب.
2) عقلية الإنسان العربي كانت مهيأة دائما للحرب فإن أقل جرح لكرامة العربي أو إثارة غضبه كانت تجعله يلجأ إلى السيف للاحتكام إليه ، دفاعا عن الشرف والكرامة.
3) هذه العقلية العربية البسيطة كانت تؤمن بفكرتين أساسيتين ألا وهما حب المساواة ولو كان نطاق ضيق أي في داخل القبيلة الواحدة , والفكرة الثانية هي الحرية بمعناها الفردي وليس الجماعي ولذا انتشرت الحروب من أجل الحرية والمساواة.
4) كان اعتماد العرب في صحراء الجزيرة على الرعي أساسا ، وفي بعض المناطق القليلة على الزراعة حول العيون والآبار ، فكان النزاع الدائم حول مناطق الرعي ، والمناطق التي تتوفر فيها عيون وآبار الماء.
ونتيجة لذلك ظهرت الشخصيات الحربية (أبطال السير والملاحم) أو ما يطلق عليهم “الفوارس” ومن أشهرهم إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق عنترة بن شداد العبسي ، صاحب عبلة ، هذا الفارس صاحب الملحمة الشعبية “ملحمة عنترة” ، والتي عشقها الشعب العربي وتغنى بها الفنان الشعبي ، كما عشقها الأدباء والمفكرون الأكاديميون الذين اهتموا بتراث وتاريخ العرب و العربية ، كما اهتم بهم أيضا العشاق الذين قرأوا أشعارهم الغزلية الجميلة.
ورغم تنوع وتعدد المثاليات في الفروسية عند العرب في العصر الجاهلي إلا أن عنترة كان – في رأيي – أعظم من مثّلوا المثالية الفروسية من كرم وشجاعة ونبل وإجارة الجار و إكرام الضيف ، والنجدة وغيرها من مثاليات الفروسية النبيلة في العصر الجاهلي.
فعنترة ينتمي إلى طبقة الفوارس الذين يعدون من فوارس القبيلة الذين كافحوا للوصول إلى أعلى المراتب في شرف الفروسية المعروفة في ذلك العصر ، الذي يعد بحق العصر الذهبي للحماسة في تاريخ الأدب العربي.
وأحب أن أبدأ هذه الدراسة بنقل دون تصرف لترجمة عنترة بن شداد من كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني:
ترجمة عنترة بن شداد كما وردت بكتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني (الجزء الثامن)
ذكر عنترة ونسبه وشيء من أخباره:
نسب عنترة: أمه أمة حبشية، كان أبوه نفاه ثم ألحقه بنسبه: هو عنترة بن شداد، وقيل: ابن عمرو بن شداد، وقيل: عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة، وقيل: مخزوم بن عوف بن مالك ابن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. وله لقبٌ يقال له عنترة الفلحاء، وذلك لتشقق شفتيه. وأمه أمةٌ حبشية يقال لها ربيبة، وكان لها ولدٌ عبيدٌ من غير شداد، وكانوا إخوته لأمه. وقد كان شداد نفاه مرةً ثم اعترف به فألحق بنسبه. وكانت العرب تفعل ذلك، تستعبد بني الإماء، فإن أنجب اعترفت به وإلا بقي عبداً.
حرشت عليه امرأة أبيه فضربه أبوه فكفته عنه فقال فيها شعراً: فأخبرني علي بن سليمان النحوي الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري عن محمد بن حبيب، قال أبو سعيد وذكر ذلك أبو عمرو الشيباني، قالا: كان عنترة قبل أن يدعيه أبوه حرشت عليه امرأة أبيه وقالت: إنه يراودني عن نفسي، فغضب من ذلك شداد غضباً شديداً وضربه ضرباً مبرحاً وضربه بالسيف، فوقعت عليه امرأة أبيه وكفته عنه. فلما رأت ما به من الجراح بكت – وكان اسمها سمية وقيل: سهية – فقال عنترة:
صوت
أمن سمية دمع الـعـين مـذروف لو أن ذا منك قبل اليوم معـروف
كأنها يوم صدت ما تـكـلـمـنـي ظبيٌ بعسفان ساجي العين مطروف
تجللتنى إذ أهوى العصـا قـبـلـي كأنها صنمٌ يعـتـاد مـعـكـوف
العبد عبدكـم والـمـال مـالـكـم فهل عذابك عني اليوم مصـروف
تنسى بلائي إذا ما غارةٌ لـحـقـت تخرج منها الطوالات السراعـيف
يخرجن منها وقد بلت رحـائلـهـا بالماء تركضها الشم الغـطـاريف
قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرضٍ تصفر كف أخيها وهو مـنـزوف
غنى في البيت الأول والثاني علوية، ولحنه من الثقيل الأول مطلق في مجرى البنصر، وقيل: إنه لإبراهيم. وفيهما رملٌ بالوسطى يقال: إن لابن سريج، وهو من منحول ابن المكي.
قوله مذروف: من ذرفت عينه، يقال: ذرفت تذرف ذريفاً وذرفاً، وهو قطرٌ يكاد يتصل.
وقوله: لو أن ذامنك قيل اليوم معروف. أي قد أنكرت هذا الحنو والإشفاق منك، لأنه لو كان معروفاً قبل ذلك لم ينكره. ساجي العين. ساكنها. والساجي: الساكن من كل شيء.
مطروف: أصابت عينه طرفةٌ، وإذا كان كذلك فهو أسكن لعينه. تجللتني: ألقت نفسها علي. وأهوى: اعتمد. صنم يعتاد أي يؤتى مرةً بعد مرة. ومعكوف: يعكف عليه.
والسراعيف: السراع، واحدتها سرعوفة. والطوالات: الخيل. والرحائل: السروج.
والشمم: ارتفاع في الأنف. والغطاريف: الكرام والسادة أيضاً. والغطرفة: ضرب من السير والمشيء يختال فيه. والنجلاء: الواسعة. يقال: سنانٌ منجلٌ: واسع الطعنة: عن عرض أي عن شقٍّ وحرف. وقال غيره: أعترضه اعتراضاً حين أقاتله.
سبب ادعاء أبيه إياه: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن ابن الكلبي، وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال قال ابن الكلبي: شدادٌ جد عنترة غلب على نسبه، وهو عنترة بن شداد، وقد سمعت من يقول: إنما شداداً عمه، كان نشأ في حجره فنسب إليه دون أبيه. قال: وإنما ادعاه أبوه بعد الكبر، وذلك لأن أمه كانت أمةً سوداء يقال لها ربيبة، وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولدٌ من أمةٍ استعبدوه. وكان لعنترة إخوةٌ من أمة عبيدٌ. وكان سبب ادعاء أبي عنترة إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس فأصابوا منهم واستاقوا إبلاً، فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم وعنترة يومئذٍ فيهم، فقال له أبوه: كر يا عنترة. فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والصر. فقال: كر وأنت حر. فكر وهو يقول:
أنا الهجين عـنـتـره كل امرىء يحمي حره
أسـوده وأحـمــره والشعرات المشعـره
الواردات مشـفـره
وقاتل يومئذ قتالاً حسناً، فادعاه أبوه بعد ذلك وألحق به نسبه.
وحكى غير ابن الكلبي أن السبب في هذا أن عبساً أغاروا على طيىء، فأصابوا نعماً، فلما أرادوا القسمة قالوا لعنترة: لا نقسم لك نصيباً مثل أنصبائنا لأنك عبد. فلما طال الخطب بينهم كرت عليهم طيىء، فاعتزلهم عنترة وقال: دونكم القوم، فإنكم عددهم.
واستنقذت طيىء الإبل. فقال له أبوه: كر يا عنترة. فقال: أو يحسن العبد الكر! فقال له أبوه: فاعترف به، فكر واستنقذ النعم. وجعل يقول:
أنا الهجين عـنـتـره كل امرىء يحمي حره
الأبيات.
قال ابن الكلبي: وعنترة أحد أغربه العرب، وهم ثلاثة: عنترة وأمه ربيبة، وخفاف بن عمير الشريدي وأمه ندبة، والسليك بن عمير السعدي وأمه السلكة، وإليهن ينسبون. وفي ذلك يقول عنترة:
إني امرؤٌ من خير عبسٍ منصبـاً شطري وأحمي سائري بالمنصل
وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظـت ألفيت خيراً من معمٍّ مـخـول
يقول: إن أبي من أكرم عبس بشطري، والشطر الآخر ينوب عن كرم أمي فيه ضربي بالسيف، فأنا خيرٌ في قومي، ممن عمه وخاله منهم وهو لا يغني غنائي. وأحسب أن في القصيدة هي التي يضاف إليها البيتان اللذان يغنى فيهما، وهذه الأبيات قالها في حرب داحس والغبراء.
حامى عن بني عبس حين انهزمت أمام تميم، فسبه قيس بن زهير فهجاه: قال أبو عمرو الشيباني: غزت بنو عبس بني تميم وعليهم قيس بن زهير، فانهزمت بنو عبس وطلبتهم بنو تميم، فوقف لهم عنترة، ولحقتهم كبكبةٌ من الخيل، فحامى عنترة عن الناس فلم يصب مدبرٌ. وكان قيس بن زهير سيدهم، فساءه ما صنع عنترة يومئذ، فقال حين رجع: والله ما حمى الناس إلا ابن السوداء. وكان قيس أكولا. فبلغ عنترة ما قال، فقال يعرض به قصيدته التي يقول فيها:
صوت
بكرت تخوفني الحتـوف كـأنـنـي أصبحت عن عرض الحتوف بمعزل
فأجبتهـا أن الـمـنـية مـنـهـلٌ لا بد أن أسقى بكأس الـمـنـهـل
فاقنى حياءك لا أبالـك واعـلـمـي أني امرؤ سأمـوت إن لـم أقـتـل
إن المنية لـو تـمـثـل مـثـلـث مثلي إذا نزلوا بضنـك الـمـنـزل
إني امرؤ من خير عبسٍ منـصـبـاً شطري وأحمي سائري بالمنـصـل
وإذا الكتيبة أحجمت وتـلاحـظـت ألفيت خيراً مـن مـعـمٍّ مـخـول
والخيل تعلم والفوارس أنـنـي فرقت جمعهم بصربة فيصـل
إذا لا أبادر في المضيق فوارسي أو لا أوكل بـالـرعـيل الأول
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحمـوا أشدد وإن يلفوا بضنـكٍ أنـزل
حين النزول يكون غاية مثلـنـا ويفر كل مضللٍ مسـتـوهـل
والخيل ساهمة الوجوه كأنـمـا تسقى فوارسها نقيع الحنـظـل
ولقد أبيت على الطوى وأظلـه حتى أنال به كريم الـمـأكـل
عروضه من الكامل. غنت في الأربعة الأبيات الأول والبيت الثاني عريب خفيف رمل بالبنصر من رواية الهشامي وابن المعتز وأبي العبيس.
الحتوف: ما عرض للإنسان من المكاره والمتالف. عن عرض أي ما يعرف منها. بمعزل أي في ناحية معتزلة عن ذلك. ومنهل: مورد. وقوله: فاقني حياءك. أي احفظيه ولا تضيعيه. والضنك: الضيق. يقول: إن المنية لو خلقت مثالاً لكانت في مثل صورتي. والمنصب: الأصل. والمنصل: السيف، ويقال منصل أيضاً بفتح الصاد. وأحجمت: كعت. والكتيبة: الجماعة إذا اجتمعت ولم تنتشر. وتلاحظت: نظرت من يقدم على العدو. وأصل التلاحظ النظر من القوم بعضهم إلى بعض بمؤخر العين. والفيصل: الذي يفصل بين الناس. وقوله: لا أبادر في المضيق فوارسي أي لا أكون أول منهزم ولكني أكون حاميتهم. والرعيل: القطعة من كل شيء. ويستلحموا: يدركوا. والمستلحم: المدرك، وأنشد الأصمعي:
نجى علاجاً وبشراً كل سلـهـبةٍ واستلحم الموت أصحاب البراذين
وساهمة: ضامرة متغيرة، قد كلح فوارسها لشدة الحرب وهولها. وقوله: ولقد أبيت على الطوى وأظله. قال الأصمعي: أبيت بالليل على الطوى وأظل بالنهار كذلك حتى أنال به كريم المأكل أي ما لا عيب فيه علي، ومثله قوله: إنه ليأتي علي اليومان لا أذوقهما طعاماً ولا شراباً أي لا أذوق فيهما. والطوى: خمص البطن، يقال: رجل طيان وطاوي البطن.
أنشد النبي صلى الله عليه وسلم بيتاً من شعره فود لو رآه: وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا ابن عائشة قال: أنشد النبي صلى الله عليه وسلم قول عنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكـل
فقال صلى الله عليه وسلم: ما وصف لي أعرابيٌّ قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.
كيف ألحق أخوته لأمه بنسب قومه: أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة: أن عنترة كان له إخوة من أمه، فأحب عنترة أن يدعيهم أقومه، فأمر أخاً له كان خيرهم في نفسه يقال له حنبل، فقال له: أرو مهرك من اللبن ثم مر به علي عشاءً. فإذا قلت لكم: ما شأن مهركم متخدداً مهزولاً ضامراً، فاضرب بطنه بالسيف كأنك تريهم أنك قد غضبت مما قلت: فمر عليهم، فقال له: يا حنبل، ما شأن مهركم متخدداً أعجر من اللبن؟ فأهوى أخوه بالسيف إلى بطن مهره فضربه فظهر اللبن. فقال في ذلك عنترة:
أبني زبيبة ما لمهركم متخدداً وبطونكم عجر
ألكم بإيغال الوليد على أثر الشياه بشدةٍ خبـر
وهي قصيدة. قال: فاستلاظه نفرٌ من قومه ونفاه آخرون. ففي ذلك يقول عنترة:
ألا يا دار عبلة بـالـطـوي كرجع الوشم في كف الهدي
وهي طويلة يعدد فيها بلاءه وآثاره عند قومه.
جوابه حين سئل أنت أشجع العرب: أخبرني عمي قال أخبرني الكراني عن النضر بن عمرو عن الهيثم بن عدي قال: قيل لعنترة: أنت أشجع العرب وأشدها؟ قال لا. قيل: فبماذا شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزماً، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزماً، ولا أدخل إلا موضعاً أرى لي منه مخرجاً، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأثني عليه فأقتله.
أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال:
قال عمر بن الخطاب للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف فارس حازمٍ. قال: وكيف يكون ذلك؟ قال: كان قيس بن زهير فينا وكان حازماً فكنا لا نعصيه. وكان فارسنا عنترة فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم. وكان فينا الربيع بن زياد وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه. وكان فينا عروة بن الورد فكنا نأتم بشعره، فكنا كما وصفت لك. فقال عمر: صدقت.
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري قال قال محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل عن أبي عبيدة وابن الكلبي قالا: موته واختلاف الروايات في سببه: أغار عنترة على بني نبهان من طيىء فطرد لهم طريدةً وهو شيخ كبير، فجعل يرتجز وهو يطردها ويقول:
آثار ظلمانٍ بقاعٍ محرب
قال: وكان زر بن جابر النبهاني في فتوة، فرماه وقال: خذها وأنا ابن سلمى، فقطع مطاه، فتحامل بالرمية حتى أتى أهله، فقال وهو مجروح:
وإن ابن سلمى عنده فاعلمـوه دمـي وهيهات لا يرجى ابن سلمى ولا دمي
يحل بأكناف الشـعـاب وينـتـمـي مكان الثريا ليس بالـمـتـهـضـم
رماني ولم يدهـش بـأزرق لـهـذمٍ عشية حلوا بين نـعـفٍ ومـخـرم
قال ابن الكلبي: وكان الذي قتله يلقب بالأسد الرهيص. وأما أبو عمرو الشيباني فذكر أنه غزا طيئاً مع قومه، فانهزمت عبس، فخر عن فرسه ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب، فدخل دغلاً، وأبصره ربيئة طيىء فنزل إليه، وهاب أن يأخذه أسيراً فرماه وقتله.
وذكر أبو عبيدة أنه كان قد أسن واحتاج وعجر بكبر سنه عن الغارات. وكان له على رجل من غطفان بكرٌ، فخرج يتقاضاه إياه، فهاجت عليه ريح ٌ من صيف وهو بين شرجٍ وناظرة، فأصابته فقتلته.
كان أحد الذين يباليهم عمرو بن معد يكرب قال أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: كان عمرو بن معد يكرب يقول: ما أبالي من لقيت من فرسان العرب ما لم يلقني حراها وهجيناها. يعني بالحرين عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وبالعبدين عنترة والسليك بن السلكة.
هذه أخبار عنترة قد ذكرت فيها ما حضر.
عنترة فارس من فرسان الجاهلية من قبيلة بني عبس وهو فارس لايشق له غبار رفع من شأن قومه كثيرا من خلال معاركه وبرزت فروسيته في بني عبس وهو الذي جعل قبيلته قوية بسبب فروسيته وشجاعته فمن من القبائل لا يعرف عنترة بن شداد ……..
اسمه:
اشتقاق اسم عنترة من ضرب من الذباب يقال له العنتر وإن كانت النون فيه زائدة فهو من العَتْرِ والعَتْرُ الذبح والعنترة أيضاً هو السلوك في الشدائد والشجاعة في الحرب. وإن كان الأقدمون لا يعرفون بأيهما كان يدعى: بعنتر أم بعنترة فقد اختلفوا أيضاً في كونه اسماً له أو لقباً. كان عنترة يلقب بالفلحاء ـ من الفلح ـ أي شق في شفته السفلى وكان يكنى بأبي الفوارس لفروسيتة و يكنى بأبي المعايش وأبي أوفى وأبي المغلس لجرأته في الغلس أو لسواده الذي هو كالغلس، وقد ورث ذاك السواد من أمه زبيبة، إذ كانت أمه حبشية وبسبب هذا السواد عدة القدماء من أغرب العرب.
نسبه:
في نسب عنترة روايات متعددة أبرزها :
* عنترة بن شداد بن معاويه بن ذهل بن قراد بن مخزوم بن ربيعه بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس
* عنترة بن شداد بن معاوية بن قراد أحد بني مخزوم بن عوذ بن غالب
* عنترة بن عمرو بن شداد بن قراد بن مخزوم بن عوف بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض
وغيرها من الروايات التي تبقي نسب عنترة مضطربا ذلك أنه نشأ عبدا ً مغمورا ً لم يعترف به أبوه إلا متأخرا.
مولده :
من السائد لدى المؤرخين أن حرب داحس والغبراء قد انتهت قبل الإسلام بقليل أي قرابة سنة 600 للميلاد وكانت هذه الحرب قد استغرقت أربعين سنة ، لذلك نستطيع أن نتوقع ولادة عنترة بحدود سنة 530 م لأنه شهد بدء هذه الحرب واشترك فيها حتى نهايتها ، وقد تم هذا التوقع لمولده لأنه ينسجم مع نصوص عديدة وردت عن اجتماع عنترة بعمرو بن معد بن يكرب ومعاصرته لعروة بن الورد وغيره من شعراء تلك الفترة.
نشأته :
يروى أن أباه قد وقع على أمة حبشية يقال لها زبيبة فأولدها عنترة ، وكان العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من أمة استعبده ، وقد ظلت عبودية عنترة فترة من الزمن لان أباه حرره بعد الكبر ولهذه الحرية قصة يذكرها الباحثون إن أمه الحبشية أتت به إلى والده فقال لأولاده ((إن هدا الغلام ولدي )) قالوا كذبت أنت شيخ وقد خرفت تدعي أولاد الناس فلما شب قالوا له : أذهب فارع الغنم ، فانطلق يرعى وباع منها واشترى سيفا ورمحا وترسا ودرعا ودفنها في الرمل . ولئن كان هذا الخبر أقرب إلى الأسطورة منه إلى الواقع فانه يؤكد حرص عنترة على تعلم الفروسية وفنون القتال منذ صغره ، وهو الذي كان يشعر بدافع من لونه أن أفعاله وبطولته وشجاعته أمور لا ترتبط بالنشأة قدر ارتباطها بالنفس وسموها..
فروسيته :
كانت حروب داحس والغبراء الميدان الفسيح الذي ظهرت فيه فروسية عنترة وشجاعته ، وأخبار هذه الحرب تقترن مع الكثير من المواقع والأيام ومنها يوم ((الفروق)) حيث اصدمت عبس بتميم ودارت رحى الحرب بينهما فأقدم عنترة في هذه المعركة وقتل معاوية بن نزال وافتخر بقومه حين قال (كنا مائة لم نكثر فنتكل ولم نقل فنذل )). ومنها أيضا معركة ((ذات الجراجر )) بين ذبيان وحليفاتها من جهة وبين بني عبس من جهة أخرى ودام القتال يومين وقد أظهر عنترة في هذه الحرب شجاعة لا توصف . ثم أرادت عبس النزول على بني سليم فوقعت معركة ضارية انهزم فيها بنو عبس وفروا ولكن عنترة ظل واقفا ً دون النساء يدافع عنهن حتى عادت الخيل واحتدمت المعركة من جيد وكان الفوز لابني عبس والأخبار عن فروسية عنترة وشجاعته كثيرة ونكتفي منها بهذا الخبر البارز حين قيل لعنترة : أنت أشجع الناس وأشدها
فقال : لا ، قيل : فبم إذا ًشاع لك هذا في الناس ؟ قال :
((كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما ً ولا أدخل موضعا ً لا أرى لي منه مخرجا ، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأثني عليه فأقتله)).
حياته:
وهو أشهر فرسان العرب وأشعرهم وشاعر المعلقات والمعروف بشعره الجميل وغزله العفيف بعبلة.
اشتهر عنترة بالفروسية والشعر والخلق السمح. ومما يروى أن بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من بني عبس فأصابوا منهم، فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم وعنترة فيهم فقال له أبوه: كر يا عنترة، فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلب والصر، فقال كر وأنت حر، فكر وأبلى بلاء حسناً يومئذ فادعاه أبوه بعد ذلك وألحق به نسبه، وقد بلغ الأمر بهذا الفارس الذي نال حريته بشجاعته أنه دوخ أعداء عبس في حرب داحس والغبراء الأمر الذي دعا الأصمعي إلى القول بأن عنترة قد أخذ الحرب كلها في شعره وبأنه من أشعر الفرسان.
وفاته :
اختلف الرواة في نهاية عنترة كما في سائر أخباره ، فتعددت الروايات ومنها أن عنترة (( خرج فهاجت رائحة من صيف وهبت نافخة فأصابت الشيخ فوجدوه ميتا بينهم )) وكان عنترة قد كبر وعجز كما يبدو من الرواية ومنها أيضا (( أنه أغر على بني نبهان من طيء فأطرد لهم طريدة وهو شيخ كبير فجعل يرتجز وهو يطردها ويقول :
آثار ظلمان ٍ بقاع ٍ مجدب
قال : وكان وزر بن جابر النبهاني في فتوة فرماه وقال خذها وأنا ابن سلمى فقطع مطاه ، فتحامل بالرمية حتى أتى أهله وهو مجروح)).
ومن أخبار وفاته ((أنه غزا طيء مع قومه فانهزمت عبس فخر عن فرسه ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب فدخل دغلا ً وأبصره ربيئة طيء فنزل إليه وهاب أن يأخذه أسيراً فرماه وقتله )).
ويزعمون أن الذي قتله يلقب بالاسد الرهيص وهو القائل :
أنا الاسد الرهيص قتلت عمرا ً وعنترة الفوارس قد قتلت
ويلاحظ المؤرخ فيليب حتي «تاريخ العرب» – في حرب البسوس، وهي أقدم الحروب وأشهرها، وقد شبه المؤرخ عنترة – شاعرًا ومحاربًا – بأخيل، كرمز لعصر البطولة العربية.
أخلاق الفرسان:
اشتهر عنترة بقصة حبه لابنة عمه عبلة، بنت مالك، وكانت من أجمل نساء قومها في نضارة الصبا وشرف الأرومة، بينما كان عنترة بن عمرو بن شداد العبسي ابن جارية فلحاء، أسود البشرة، وقد ولد في الربع الأول من القرن السادس الميلادي، وذاق في صباه ذل العبودية، والحرمان وشظف العيش والمهانة، لأن أباه لم يستلحقه بنسبه، فتاقت روحه إلى الحرية والانعتاق. غير أن ابن الفلحاء، عرف كيف يكون من صناديد الحرب والهيجاء، يذود عن الأرض، ويحمي العرض، ويعف عن المغنم. يقول عنترة:
ينبئك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وعنترة (كمثال لأخلاقية الحرب والنبل والشهامة والحميّة)، استحق تنويه النبي محمد عندما تُلي أمامه قول عنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظلّه حتى أنال به كريم المأكلِ
يقول صاحب الأغاني: «قال عمر بن الخطاب للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف فارس حازم. قال: كيف يكون ذلك؟ قال: كان قيس بن زهير فينا، وكان حازمًا فكنا لا نعصيه. وكان فارسنا عنترة فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم. وكان فينا الربيع بن زياد وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه. وكان فينا عروة بن الورد فكنا نأتم بشعره… إلخ». ولعل في هذا المثل السالف آية وعلامة على «فن الحرب» الذي كان يعتمد في العصور القديمة على الرأي والاستراتيجية والقيادة الحكيمة، والشعر (التعبئة) والقوة القائمة على العنف والغلبة.
وهذه الآراء تؤكد اقتران الحيلة والحنكة في فن الحرب عند عنترة وأقرانه في عصر السيف والرمح والفروسية. لا مراء في أن عنترة كان أشهر فرسان العرب في الجاهلية، وأبعدهم صيتًا، وأسيرهم ذكرًا وشيمة، وعزة نفس، ووفاء للعهد، وإنجازًا للوعد وهي الأخلاقية المثلى في قديم الزمان وحديثه.
بالرغم من هذا، فقد خرج عنترة في كنف أب من أشراف القوم وأعلاهم نسبًا، ولكن محنته جاءته من ناحية أمه «الأَمَة» ولم يكن ابن الأمة يلحقه بنسب أبيه إلا إذا برز وأظهر جدارته واستحقاقه للحرية والعتق، والشرف الرفيع، وهذا ما حصل في حال عنترة الذي اشترى حريته بسيفه وترسه ويراعه (لسانه) الشعري، وأثبت أن الإنسان صانع نفسه، وصاحب مصيره، بغض النظر عن أصله وفصله، وجنسه، ولونه وشكله.
يقول عنترة:
لا تسقني ماءَ الحياة بذلةٍ *** بل فاسقني بالعز كأس الحنظَلِ
ماءُ الحياة بذلةٍ كجهنم *** وجهنم بالعزِّ أطيب منزل
وقد كانت عبلة وظلت الأثيرة في حياته وحتى مماته. وقد انتهت حياة البطل عنترة بعد أن بلغ من العمر عتيًا، ويشبه مماته ميتة أخيل، كفارس يقاتل في التسعين من عمره، في كبره، ومات مقتولاً إثر رمية سهم، وكان الذي قتله يلقب بالأسد الرهيص من قبيلة طيء. وكان لامارتين الشاعر الفرنسي معجبًا بميتة عنترة الذي ما إن أصيب بالسهم المسموم وأحسّ أنه ميت لا محالة، حتى اتخذ خطة المناضل – حتى بعد مماته – فظل ممتطيًا صهوة جواده، مرتكزًا على رمحه السمهري، وأمر الجيش بأن يتراجع القهقرى وينجو من بأس الأعداء، وظل في وقفته تلك حاميًا ظهر الجيش والعدو يبصر الجيش الهارب، ولكنه لا يستطيع اللحاق به لاستبسال قائده البطل في الذود عنه ووقوفه دونه، حتى نجا الجيش وأسلم عنترة الروح، باقيًا في مكانه، متكئًا على الرمح فوق جواده الأبجر.
لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ ولا ينالُ العلى من طبعهُ الغضبُ
ومن يكنْ عبد قومٍ لا يخالفهمْ إذا جفوهُ ويسترضى إذا عتبوا
قدْ كُنْتُ فِيما مَضَى أَرْعَى جِمَالَهُمُ واليَوْمَ أَحْمي حِمَاهُمْ كلَّما نُكِبُوا
لله دَرُّ بَني عَبْسٍ لَقَدْ نَسَلُوا منَ الأكارمِ ما قد تنسلُ الـعربُ
لئنْ يعيبوا سوادي فهوَ لي نسبٌ يَوْمَ النِّزَالِ إذا مَا فَاتَني النَسبُ
إن كنت تعلمُ يا نعمانُ أن يدي قصيرةٌ عنك فالأيام تنقلب
أليوم تعلم, يانعمان, اي فتىً يلقى أخاك ألذي غرّه ألعصبُ
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها الــعطبُ
فَتًى يَخُوضُ غِمَارَ الحرْبِ مُبْتَسِماً وَيَنْثَنِي وَسِنَانُ الـرُّمْحِ مُخْتَضِبُ
إنْ سلَّ صارمهُ سالتَ مضاربهُ وأَشْرَقَ الجَوُّ وانْشَقَّتْ لَهُ الحُجُـبُ
والخَيْلُ تَشْهَدُ لي أَنِّي أُكَفْكِفُهَا والطّعن مثلُ شرارِ النَّار يلتهبُ
إذا التقيتُ الأعادي يومَ معركة تَركْتُ جَمْعَهُمُ المَغْرُور يُنْتَهَبُ
لي النفوسُ وللطّيرِاللحومُ ولل ـوحْشِ العِظَامُ وَلِلخَيَّالَة ِالسَّـلَبُ
لا أبعدَ الله عن عيني غطارفة إنْساً إذَا نَزَلُوا جِنَّا إذَا رَكِبُوا
أسودُ غابٍ ولكنْ لا نيوبَ لهم إلاَّ الأَسِنَّة ُ والهِنْدِيَّة ُالقُضْبُ
تعدو بهمْ أعوجيِّاتٌ مضَّمرة ٌمِثْلُ السَّرَاحِينِ في أعناقها القَببُ
ما زلْتُ ألقى صُدُورَ الخَيْلِ منْدَفِقاً بالطَّعن حتى يضجَّ السَّرجُ واللَّببُ
فا لعميْ لو كانَ في أجفانهمْ نظروا والخُرْسُ لوْ كَانَ في أَفْوَاهِهمْ خَطَبُوا
والنَّقْعُ يَوْمَ طِرَادِ الخَيْل يشْهَدُ لي والضَّرْبُ والطَّعْنُ والأَقْلامُ والكُتُـبُ
لقد كان عنترة منذ صباه يطمح إلى أن يصبح فارس الشعر أو شاعر الفرسان فقد قال وهو مما أنشده في صباه:
ما ساءني لوني و اسم زبيبة إن قصرت همتي أعدائي
فلئن بقيت لأصنعن عجائبا ولأبكمن بلاغة الفصحاءِ
وزبيبة هي أمه الأمة السوداء التي أنجبته من شداد بن قراد العبسي ، وقد ورث عنترة عن أمه سواد بشرته فلذا أنكره والده ، وجعله عبدا له ، ومن هنا بدأت معارك عنترة ، وكانت معركته الأولى من أجل التحرر من نير العبودية والثورة على التفرقة العنصرية القائمة على اللون ، إن جاز لنا استخدام هذا المصطلح في ذلك العصر – ويعبر عنترة عن ذلك بقوله:
لئن أكُ أسوداً فالمسكُ لوني ومَا لِسوادِ جِلدي منْ دواء
وَلَكِنْ تَبْعُدُ الفَحْشاءُ عَني كَبُعْدِ الأَرْضِ عَنْ جوِّ السَّماء
فهو لا ينكر سواد لونه ولا يخجل منه ، ولكنه وإن كان أسود اللون فإن أخلاقه كريمة ، فهو لا يقبل الفحشاء وإنما هي بعيدة كل البعد عنه ، بعد الأرض عن جو السماء ، ونراه يكرر ذلك في أكثر من قصيدة ، كلما عيّر بسواد لونه ، وهو هنا يدعو عدم اتخاذ لون البشرة كمقياس للبشر ، فالعنصرية القائمة على اللون غير طبيعية ومرفوضة في معتقد عنترة الفارس النيل فالنبل عنده في الأخلاق ، وليس في اللون ، فها هو يقول ، وهو مما قاله في صباه:
ما زِلتُ مُرتَقِياً إِلى العَلياءِ حَتّى بَلَغتُ إِلى ذُرى الجَوزاءِ
فَهُنَاكَ لا أَلْوِي عَلى مَنْ لاَمَنِي خوْفَ المَمَاتِ وَفُرْقَة ِ الأَحْياءِ
فلأغضبنَّ عواذلي وحواسدي ولأَصْبِرَنَّ عَلى قِلًى وَجَوَاءِ
ولأَجهَدَنَّ عَلى اللِّقَاءِ لِكَيْ أَرَى ما أرتجيهِ أو يحينَ قضائيِ
ولأَحْمِيَنَّ النَّفْسَ عَنْ شهَوَاتِهَا حَتَّى أَرَى ذَا ذِمَّة ٍ وَوَفاءِ
منْ كانَ يجحدني فقدْ برحَ الخفا ما كنتُ أكتمهُ عن الرُّقباءِ
ما ساءني لوني وإسمُ زبيبة ٍ إنْ قَصَّرَتْ عَنْ هِمَّتي أعدَائي
فَلِئنْ بَقيتُ لأَصْنَعَنَّ عَجَائِباً ولأُبْكمنَنَّ بَلاَغَة َ الفُصحَاءِ
ويشكو عنترة من قسوة الدهر له ، وظلم البشر وعنصريتهم التي تسلبه حقه وحريته ، وهو في شكواه يخبرنا بعدده ومعداته ، وكذا وسائله للتخلص من هذه العنصرية ، وعناصر الحرب هي دائما الأخلاق الكريمة ، والنبل والشجاعة ، مستخدما الخيل والسيف والرمح فها هو يقول:
أُعادي صَرْفَ دَهْرٍ لا يُعادى وأحتملُ القطيعة والبعادا
و أظهرُ نُصْحَ قَوْمٍ ضَيَّعُوني و إنْ خانَت قُلُوبُهُمُ الودَادا
أعللُ بالمنى قلبا عليلا و بالصبر الجميلِ و ان تمادى
تُعيّرني العِدى بِسوادِ جلْدي وبيض خصائلي تمحو السَّوادا
سلي يا عبلَ قومك عنْ فعالي ومَنْ حضَرَ الوقيعَة َ والطّرادا
وردتُ الحربَ والأبطالُ حولي تَهُزُّ أكُفُّها السُّمْرَ الصّعادا
و خُضْتُ بمهْجتي بحْرَ المَنايا ونارُ الحربِ تتقدُ اتقادا
وعدتُّ مخضباً بدَم الأعادي وكَربُ الرَّكض قد خضَبَ الجودا
و كمْ خلفتُ منْ بكرٍ رداحٍ بصَوْتِ نُواحِها تُشْجي الفُؤَادا
وسَيفي مُرْهَفُ الحدَّين ِ ماضٍ تَقُدُّ شِفارُهُ الصَّخْرَ الجَمادا
و رُمحي ما طعنْتُ به طَعيناً فعادَ بعينيهِ نظرَ الرشادا
ولولا صارمي وسنانُ رمحي لما رَفَعَتْ بنُو عَبْسٍ عمادا
ومما كان يزيد من آلامه تنكر قومه له ، ورفضهم لنسبه ، واستعباده ، وهو واحد منهم بل هو من فرسانهم الذي بنى كرامتهم وبنى عزهم ، فكان يشكو من جور قومه فيقول:
أُعاتِبُ دَهراً لاَ يلِينُ لعاتبِ وأطْلُبُ أَمْناً من صُرُوفِ النَّوائِبِ
وتُوعِدُني الأَيَّامُ وعْداً تَغُرُّني وأعلمُ حقاً أنهُ وعدُ كاذبِ
خَدَمْتُ أُناساً وَاتَّخَذْتُ أقارباً لِعَوْنِي وَلَكِنْ أصْبَحُوا كالعَقارِبِ
يُنادُونني في السِّلم يا بْنَ زَبيبة ٍ وعندَ صدامِ الخيلِ يا ابنَ الأطايبِ
ولكن لماذا صبر عنترة على كل هذه الإهانات ن والتجاهل ، والنكران له ممن هم أعلم الناس به؟. السبب ولا شك هو شرف الانتماء إلى القبيلة ، الشرف الذي دافع عنه فرسان الجاهلية ، باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر نبل الفرسان ، وشهامتهم، فنرى عنترة يتعالى على آلامه ، ويعتز بنسبه ، ويقول:
ولولا الهوى ما ذلَّ مثلي لمثلهم ولا خَضعتْ أُسدُ الفَلا للثَّعالبِ
ستذكرني قومي إذا الخيلُ أصبحتْ تجولُ بها الفرسانُ بينَ المضاربِ
فإنْ هُمْ نَسَوْني فالصَّوَارمُ والقَنا تذكرهمْ فعلي ووقعَ مضاربيِ
فيَا لَيْتَ أَنَّ الدَّهْرَ يُدني أَحبَّتي إليَّ كما يدني إليَّ مصائبيِ
ولَيْتَ خيالاً مِنكِ يا عبلَ طارقاً يرى فيضَ جفني بالدموعِ السواكبِ
سأَصْبِرُ حَتَّى تَطَّرِحْني عَواذِلي وحتى يضجَّ الصبرُ بين جوانبيِ
مقامكِ في جوِّ السماء مكانهُ وَباعِي قَصيرٌ عَنْ نوالِ الكَواكِبِ
فهو لن يسكت عن حقوق الأهل ، ولن يتكاسل عن نجدتهم فيقول:
سكتُّ فَغَرَّ أعْدَائي السُّكوتُ وَظنُّوني لأَهلي قَدْ نسِيتُ
وكيفَ أنامُ عنْ ساداتِ قومٍ أنا في فَضْلِ نِعْمتِهمْ رُبيت
وإنْ دارْتْ بِهِمْ خَيْلُ الأَعادي ونَادوني أجَبْتُ متى دُعِيتُ
بسيفٍ حدهُ يزجي المنايا وَرُمحٍ صَدْرُهُ الحَتْفُ المُميتُ
خلقتُ من الحديدِ أشدَّ قلباً وقد بليَ الحديدُ ومابليتُ
وفي الحَرْبِ العَوانِ وُلِدْتُ طِفْلا ومِنْ لبَنِ المَعامِعِ قَدْ سُقِيتُ
وَإني قَدْ شَربْتُ دَمَ الأَعادي بأقحافِ الرُّؤوس وَما رَويتُ
فما للرمحِ في جسمي نصيبٌ ولا للسيفِ في أعضاي َقوتُ
ولي بيتٌ علا فلكَ الثريَّا تَخِرُّ لِعُظْمِ هَيْبَتِهِ البُيوتُ
والشيء الآخر هو حب عنترة لابنة عمه مالك فيصبر ويكافح من أجل الحصول على رضا عبلة فيقول:
دَعني أَجِدُّ إلى العَلْيَاءِ في الطَّلبِ وأبلغُ الغاية َ القصوى منَ الرتبِ
لعلَّ عبلة َ تضحى وهيَ راضية ٌ على سوادي وتمحوصورة َ الغضبِ
إذا رَأتْ سائرَ الساداتِ سائرة ً تَزورُ شِعْري برُكْنِ البَيْتِ في رَجبِ
يا عبْلَ قُومي انظُري فِعْلي وَلا تسَلي عني الحسودَ الذي ينبيكِ بالكذبِ
إن أقبلتْ حدقُ الفرسانِ ترمقني و كلُّ مقدام حربٍ مالَ للهربِ
فَما ترَكْتُ لهُمْ وجْهاً لِمُنْهَزمِ و لاّ طريقاً ينجيهم من العطبِ
فبادري وانظري طعناً إذا نظرتْ عينُ الوليدِ إليه شابَ وهو صبيِ
خُلِقْتُ للْحَرْبِ أحميها إذا بَردَتْ وأصطلي نارها في شدَّة اللهبِ
بصَارِمٍ حَيثُما جرَّدْتُهُ سَجَدَتْ له جبابرة ُ الأعجام ِ و العربِ
وقدْ طَلَبْتُ منَ العَلْياءِ منزلة ً بصارمي لا بأُمِّي لا ولا بأَبي
فمنْ أجابَ نجا ممَّا يحاذره ومَنْ أَبى طَعمَ الْحَربِ والحَرَبِ
ويعاني عنترة من عبلة حبيبته ومن ظلم قبيتله ، فيعود لعتاب الدهر بشعر أرق من الصبح ، من شاعر فارس نبيل خبر الحروب وعايشها قيقول:
أُعاتبُ دَهراً لا يَلينُ لناصِح وأخفي الجوى في القلب والدَّمعُ فاضحى
وَقَومي معَ الأَيَّام عَوْنٌ على دَمي وَقَدْ طلَبوني بالقَنا والصَّفائِحِ
وقد أبعدوني عن حبيبٍ احبُّه فأصبحتُ في قفرٍ عن الانس نازح
وقد هانَ عندي بذلُ نفسٍ عزيزة ٍ ولو فارقتني ما بكتها جوارحي
وأَيسَرُ منْ كَفِّي إذَا ما مَددْتُها لَنَيْل عَطَاءٍ مَدُّ عُنْقي لذَابح
فيا رَبُّ لا تجْعلْ حَياتي مَذَمَّة ً ولا مَوْتتي بين النِّساءِ النَّوائِحِ
ولكن قَتيلاً يَدْرُجُ الطَّيرُ حوْلَهُ وتشربُ غربانُ الفلا من جوانحي
ورغم المعاناة ، فإن عنترة لم يستسلم بل حاول وحاول ، فيقول:
إذا قنعَ الفتى بذميمِ عيشِ وَكانَ وَراءَ سَجْفٍ كالبَنات
وَلمْ يَهْجُمْ على أُسْدِ المنَايا وَلمْ يَطْعَنْ صُدُورَ الصَّافِنات
ولم يقرِ الضيوفَ إذا أتوهُ وَلَمْ يُرْوِ السُّيُوفَ منَ الكُماة ِ
ولمْ يبلغْ بضربِ الهامِ مجداً ولمْ يكُ صابراً في النائباتِ
فَقُلْ للنَّاعياتِ إذا بكَتهُ أَلا فاقْصِرْنَ نَدْبَ النَّادِباتِ
ولا تندبنَ إلاَّ ليثَ غابٍ شُجاعاً في الحُروبِ الثَّائِراتِ
دَعوني في القتال أمُت عزيزاً فَموْتُ العِزِّ خَيرٌ من حَياتي
لعمري ما الفخارُ بكسْب مالٍ ولا يُدْعى الغَنيُّ منَ السُّرَاة ِ
ستذكُرني المعامعُ كلَّ وقتٍ على طُولِ الحياة ِ إلى المَمات
فذاكَ الذِّكْرُ يبْقى لَيْسَ يَفْنى مَدى الأَيَّام في ماضٍ وآت
وإني اليومَ أَحمي عِرْضَ قومي وأَنْصُرُ آلَ عَبْسَ على العُدَاة ِ
وآخذُ مَالنا منْهُمُ بحَرْبٍ تَخِرُّ لها مُتُونُ الرَّاسيَاتِ
وأَتْرُكُ كلَّ نائِحَة ٍ تُنادي عليهم بالتفرقِ والشتاتِ
كانت الحرية والتحرر من العبودية ، هي أول آمال ومطالب عنترة ولقد واتته الفرصة عندما أغار بنو طيء على مضارب بني عبس ، فأصابوا منهم وقتلوا وأسروا ما شاءوا ، وتقاعس عنترة عن الخروج إليهم ، فمر به شداد وهو جالس على فرسه بعيدا عن المعركة ، فقال له: ويلك عنترة ، كر. فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر ، و إنما يحسن الحلب والضر. فقال شداد: كر و أنت حر ، فكر عنترة وحده ، وهبت في إثره رجال عبس، فهزم السرية المغيرة واستنقذ ما بين أيديهم من غنائم ، ونال حريته التي كان يرجوها فقال في ذلك:
عقابُ الهجرِ أعقبَ لي الوصالاَ وصِدْقُ الصَّبْرِ أظْهَرَ لي المحالا
ولولا حبُّ عبلة َ في فؤادي مقيمٌ ما رعيتُ لهم جمالا
عتبتُ الدَّهر كيفَ يذلُّ مثلي ولي عزمٌ أقدُّ به الجبالا
أَنا الرجلُ الذي خُبِّرْتِ عنه وقد عاينْتَ مَعْ خبري الفِعالا
غداة َ أتتْ بنو طيِّ وكلبٍ تهزُّ بكَفّها السُّمرَ الطّوالا
بجيشٍ كلما لاحظت فيه حسبتُ الأرضَ قد ملئتْ رجالا
ودَاسوا أَرْضَنا بمُضَمَّراتٍ فكان صَهيلُها قِيلاً وقالا
تولوا جفَّلاَ منَّا حيارى وفاتوا الظغن منهم والرِّحالا
وما حملتْ ذَوُو الأَنسابِ ضَيْماً ولا سمعتْ لداعيها مقالا
وما رَدَّ الأَعِنَّة َ غيرُ عبْدٍ ونارُ الحربِ تشتعلُ اشتعالاً
بطعن ترعدُ الأبطالُ منهُ لشدته فتجنبُ القتالا
صدمتُ الجَيْشَ حتى كَلَّ مُهري وعدتُ فما وجدتُ لهم ظلالاَ
وراحتْ خيلهمْ من وجه سيفي خِفافاً بعْد ما كانتْ ثقالا
تدوسُ على الفوارس وهْيَ تعدو وقد أخذَتْ جماجمَهُمْ نعالا
وكمَ بطل تركتُ بها طريحاً يحركُ بعد يمناهُ الشّمالا
وخلصتُ العذارى والغواني وما أبقيتُ معْ أحدٍ عقالا
وها هو أخيرا يحقق حريته لا منّة ولا صدقة ، و إنما حصل عليها بسن رمحه وعلى حد سيفه.
تُعَنِّفني زَبيبة ُ في الملاَمِ على الإقدام في يومِ الزّحام
تخافُ عليَّ أن ألقى حمامي بطعن الرُّمح أو ضربِ الحسام
مقالٌ ليسَ يَقْبَلُهُ كِرامٌ ولا يرضى به غيرُ اللّئام
يخوضُ الشَّيْخُ في بَحْر المنايا ويرْجعُ سالماً والبَحْرُ طامِ
ويأْتي الموْتُ طِفلاً في مُهودٍ ويلقى حتفهُ قبلَ الفطام
فلا ترْضى بمنقَصَة ٍ وَذُلٍّ وتقنعْ بالقليل منَ الحطام
فَعيْشُكَ تحْتَ ظلّ العزّ يوْماً ولا تحت المذلَّة ِ ألفَ عام
ولقد كان عنترة شأنه شأن فوارس عصره مثل عمرو بن كلثوم ، إلى تأبط شرا ، وامروء القيس ، معتزا بفتوته ورمحه وسيفه وفرسه الذين ساهموا في تحريره من ربقة الذل والعبودية ، وكانت تلك رمزا من رموز القوة التي اعتز بها شعراء وفرسان ذلك العصر ، ولذا نرى عنترة دائم الحديث عنهم في أشعاره ، راويا قصص مشاركاتهم إياه في كره وفره، وفي هذا يقول:
أنا في الحربِ العوان غيرُ مجهول المكان
أينما نادَى المنادي في دُجى النَّقْع يرَاني
وحسامي مع قناتي لفعالي شاهدان
أنني أطعنُ خصمي وَهْو يَقْظانُ الجَنانِ
أسقِهِ كاسَ المنايا وقِراها منهُ دَاني
أشعلُ النَّار ببأسي وأطاها بجناني
إنني ليثٌ عبُوسٌ ليسَ لي في الخلْق ثاني
خلق الرِّمحُ لكفي والحسامُ الهندواني
ومعي في المَهْدِ كانا فوْق صدْري يُؤْنِساني
فإذا ما الأَرضُ صارتْ وردة َ مثل الدّهان
والدّما تجري عليها لونها أحمرُ قاني
ورأيتُ الخيلَ تهوي في نَوَاحي الصَّحْصحان
فاسْقياني لا بكأْسٍ من دمٍ كالأرجوان
واسمعاني نغمة َ الأس ـيافِ حتى تُطرباني
أطيبُ الأصواتِ عندي حُسْنُ صوْت الهنْدواني
وصريرُ الرُّمحِ جهراً في الوغى يومَ الطَّعان
وصِياحُ القوْمِ فيه وهْو للأَبْطال داني
وقال أيضا:
سلي يا ابنة َ العبسيِّ رمحي وصارمي وما فَعلاَ في يوم حَرْبِ الأَعاجمِ
سقيتهما والخيلُ تعثرُ بالقنا دماءَ العدَا ممزوجة ًبالعلاقم
وفرَّقتُ جيشاً كانَ في جنباتهِ دمادمُ رعد تحتَ برقِ الصَّوارم
على مُهرة ٍ منْسوبة ٍ عربيَّة ٍ تطيرُ إذا اشتَدَّ الوغَى بالقَوائم
وتصهلُ خوفاً والرِّماحُ قواصدٌ إليها وتنْسَلُّ انسلاَلَ الأَراقم
قَحمْتُ بها بحرَ المنايا فحَمحَمتْ وقد غَرِقتْ في موْجِهِ المتلاطَم
وكم فارسٍ يا عَبلَ غادَرْتُ ثاوياً يَعَضُّ على كَفَّيْهِ عضَّة َ نادِمِ
تقلّبهُ وحشُ الفلاَ وتنوشهُ منَ الجوِّ أسْرابُ النُّسور القشاعِم
أحبُّ بني عبس ولو هدروا دَمي وأُظهرُ أني ظالمٌ وابْن ظالم
وكان دور الفرس في المعركة الجاهلية دورا كبيرا ، وكانت العلاقة بين الفارس وفرسه علاقة حميمة ولنسمع حوار عنترة مع فرسه:
في حومة ِ الحربِ التى لا تشتكي غَمَرَاتِها الأَبطالُ غيْرَ تَغَمْغُمِ
إذْ يتقُون بي الأسَّنة لم أخمْ عنها ولكني تضايق مُقدَمي
لما رأيتُ القومَ أقبلَ جمعهُم يتذَامرونَ كَرَرْتُ غَيْرَ مذَمّم
يدعون عنترَ والرِّماحُ كأنها أشطانُ بئرٍ في لبانِ الأدهم
ما زلتُ أرميهمْ بثغرة ِ نحره ولِبانِهِ حتى تَسَرْبلَ بالدّم
فازورّ من وقع القنا بلبانهِ وشكا إليّ بعَبْرة ٍ وَتَحَمْحُمِ
ورغم بساطة الصورة الشعرية ، إلا أن قوتها وتمكن عنترة الشاعر من الوصف ، نقلنا ببراعة إلى أرض المعركة ، حيث رسم صورة كلية لما يدور في أرض المعركة ، وهي صورة متحركة ، كأنها شاشة السينما ، وعناصر الصورة من صوت ولون واضحان ، والبعد الثالث ، يبين بوضوح في خلفية الصورة ، حيث نشعر قوة المعركة ، وبسالة الفارس ، وشكوى الفرس وألمه ، وما أروع هذا الشاعر الفارس حين يقول في معلقته:
لَو كانَ يَدري ما المُحاوَرَةُ اِشتَكى وَلَكانَ لَو عَلِمَ الكَلامَ مُكَلِّمي
ولقد شفى نفسي وأبرأ سُقمها قيلُ الفوارس ويكَ عنتر أقدم
والخيلُ تقْتَحِمُ الخَبَارَ عوابساً ما بين شيْظمة ِ وآخر شيْظم
والصورة الشعرية عند عنترة – كعادة الصورة عند رشعراء الجاهلية – صورة بسيطة وقوية خالية من التعقيد والغموض ، مع لفظ واضح ومعبر وموسيقي ، فكأننا نرى بأعيننا ساحة المعركة ، وصورة الفرس والفارس شاخصة أمامنا ، في روعة وجمال ، وإذا كان هذا حال الفرس فما بالك بالفارس ، وكيف كانت شجاعته ، وهذه التساؤلات يجيب عنها عنترة في ثنايا شعره حيث يقول:
خلقتُ من الحديدِ أشدَّ قلباً وقد بليَ الحديدُ ومابليتُ
وفي الحَرْبِ العَوانِ وُلِدْتُ طِفْلا ومِنْ لبَنِ المَعامِعِ قَدْ سُقِيتُ
وَإني قَدْ شَربْتُ دَمَ الأَعادي بأقحافِ الرُّؤوس وَما رَويتُ
فما للرمحِ في جسمي نصيبٌ ولا للسيفِ في أعضاي َقوتُ
ولي بيتٌ علا فلكَ الثريَّا تَخِرُّ لِعُظْمِ هَيْبَتِهِ البُيوتُ
ولشرف الفروسية ونبلها عند عنترة بن شداد عناصر كثيرة غير التي سبقناها من الشجاعة والإقدام ، ونيل الحق والرتب العليا بحد السيف ، وفخر بالسيف والرمح والفرس ، وقد أجمل عنترة هذه العناصر حيث يقول:
حكّمْ سيُوفَكَ في رقابِ العُذَّل واذا نزلتْ بدار ذلَّ فارحل
وإذا بُليتَ بظالمٍ كُنْ ظالماً واذا لقيت ذوي الجهالة ِ فاجهل
وإذا الجبانُ نهاكَ يوْمَ كريهة ٍ خوفاً عليكَ من ازدحام الجحفل
فاعْصِ مقالَتهُ ولا تَحْفلْ بها واقْدِمْ إذا حَقَّ اللِّقا في الأَوَّل
واختَرْ لِنَفْسِكَ منْزلاً تعْلو به أَوْ مُتْ كريماً تَحْتَ ظلِّ القَسْطَل
فالموتُ لا يُنْجيكَ منْ آفاتِهِ حصنٌ ولو شيدتهُ بالجندل
موتُ الفتى في عزهِ خيرٌ له منْ أنْ يبيتَ أسير طرفٍ أكحل
إنْ كُنْتُ في عددِ العبيدِ فَهمَّتي فوق الثريا والسماكِ الأعزل
أو أنكرتْ فرسانُ عبس نسبتي فسنان رمحي والحسام يقرُّ لي
وبذابلي ومهندي نلتُ العلاَ لا بالقرابة ِ والعديدِ الأَجزل
ورميتُ مهري في العجاجِ فخاضهُ والنَّارُ تقْدحُ منْ شفار الأَنْصُل
خاضَ العجاجَ محجلاً حتى إذا شهدَ الوقعية َ عاد غير محجل
ولقد نكبت بني حريقة َ نكبة ً لما طعنتُ صميم قلب الأخيل
وقتلْتُ فارسَهُمْ ربيعة َ عَنْوَة ً والهيْذُبانَ وجابرَ بْنَ مُهلهل
وابنى ربيعة َ والحريسَ ومالكا والزّبْرِقانُ غدا طريحَ الجَنْدل
وأَنا ابْنُ سوْداءِ الجبين كأَنَّها ضَبُعٌ تَرعْرَع في رُسومِ المنْزل
الساق منها مثلُ ساق نعامة ٍ والشَّعرُ منها مثْلُ حَبِّ الفُلْفُل
والثغر من تحتِ اللثام كأنه برْقٌ تلأْلأْ في الظّلامَ المُسدَل
يا نازلين على الحِمَى ودِيارِهِ هَلاَّ رأيتُمْ في الدِّيار تَقَلْقُلي
قد طال عزُّكُم وذُلِّي في الهوَى ومن العَجائبِ عزُّكم وتذَلُّلي
لا تسقيني ماءَ الحياة ِ بذلة ٍ بل فاسقني بالعزَّ كاس الحنظل
ماءُ الحياة ِ بذلة ٍ كجهنم وجهنم بالعزَّ أطيبُ منزل
وبعد أن كلمنا عن كرامة العربي الفارس التي يحصلها بحد السيف ويدافع عنها بسن الرمح ، ويذكر لنا أن الحياة لا تستقيم مع الذل ، وخير منها الموت ، إذا كانت الحياة تحت وطأة الاستعباد ، نراه يعدد مناقبا أخرى لشرف الفروسية ، فهو ليس بالظالم أبدا ولكنه المدافع عن المظلوم ، ولا يرضى الظلم لنفسه ولا غيره ، أما ما عدا ذلك فهو سمح كريم، ويقول:
أثني عليَّ بما علِمْتِ فإنني سمحٌ مخالقتي إذا لم أظلم
وإذا ظُلمْتُ فإنَّ ظُلميَ باسلٌ مرٌّ مذَاقَتهُ كَطعم العَلْقم
ولقد شربتُ من المدامة بعد ما رَكَدَ الهواجرُ بالمشوفِ المُعْلمِ
بزُجاجة ٍ صفْراءَ ذاتِ أسرَّة ٍ قرنتْ بأزهر في الشمالِ مفدَّم
فإذا شربتُ فإنني مُسْتَهْلِكٌ مالي وعرضي وافرٌ لم يُكلم
وإذا صَحَوْتُ فما أَقصِّرُ عنْ ندى ً وكما عَلمتِ شمائلي وَتَكَرُّمي
وحليل غانية ٍ تركتُ مجدلاً تَمكو فريصتُهُ كشدْقِ الأَعْلَمِ
سبقتْ يدايَ له بعاجل طعنة ٍ ورشاشِ نافذَة ٍ كلوْن العَنْدَمِ
هَلّا سَأَلتِ الخَيلَ يا اِبنَةَ مالِكٍ إِن كُنتِ جاهِلَةً بِما لَم تَعلَمي
إذ لا أزالُ على رحالة ِ سابح نهْدٍ تعاوَرُهُ الكُماة ُ مُكَلَّمِ
طَوْراً يجَرَّدُ للطعانِ وتارة ً يأوي الى حصدِ القسيِّ عرمرمِ
يُخبرْك من شَهدَ الوقيعَة َ أنني أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنم
ومدَّججٍ كرِهَ الكُماة ُ نِزَالَهُ لا مُمْعنٍ هَرَباً ولا مُسْتَسلم
جادتْ له كفي بعاجل طعنة ٍ بمثَقَّفٍ صَدْقِ الكُعُوبِ مُقَوَّم
فَشَكَكتُ بِالرُمحِ الأَصَمِّ ثِيابَهُ لَيسَ الكَريمُ عَلى القَنا بِمُحَرَّمِ
فتركتهُ جزرَ السباع ينشنهُ يقضمنَ حسنَ بنانهِ والمعصم
وَمِشَكِّ سابغة ٍ هَتكتُ فروجَها بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
زبدٍ يداهُ بالقداح إذا شتا هتَّاك غايات التجار ملوَّم
لما رآني قَدْ نَزَلْتُ أُرِيدُهُ أبدى نواجذهُ لغير تبسُّم
عهدي به مَدَّ النّهار كأَنما خضبَ اللبان ورأسهُ بالعظلم
فطعنتهُ بالرُّمح ثم علوتهُ بمهندٍ صافيِ الحديد مخذَم
بَطَلٍ كَأَنَّ ثِيابَهُ في سَرحَةٍ يُحذى نِعالَ السِبتِ لَيسَ بِتَوأَمِ
يَا شَاة َ ما قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ حرمتْ عليَّ وليتها لم تحرُم
فَبَعَثْتُ جاريتي فقلْتُ لها اذْهبي فَتجسَّسي أخبارَها ليَ واعلمي
قالتْ رأيتُ منْ الأعادي غرَّة ً والشاة ُ مُمكِنة ٌ لمنْ هُو مُرْتَمِ
وكأنما التفتتْ بجيدِ جداية ٍ رَشَاءٍ من الغِزْلانِ حُرٍّ أرثم
نِبِّئتُ عَمرواً غَيرَ شاكِرِ نِعمَتي وَالكُفرُ مَخبَثَةٌ لَنَفسِ المُنعِمِ
ولقد حفظتُ وصاة عمّي بالضحى إذ تقلصُ الشفتانِ عنْ وضح الفم
في حومة ِ الحربِ التى لا تشتكي غَمَرَاتِها الأَبطالُ غيْرَ تَغَمْغُمِ
ويؤكد على ذلك ، فالفارس الكريم الشجاع لايرضى الظلم أبدا ، والرمح والسيف في يده ، والفتوة في اليدين ، والقلب قلب أسد يدافع عن عرينه وأشباله ، لايهاب الموت ، ويخوض غمار الحروب ببسالة ، ردا للمظالم ، أو الموت ، ونراه يقول:
أَظُلماً ورمْحي ناصري وحُسامي وذلاًّ وعزِّي قائِدٌ بزمامي
ولي بأس مفتول الذِّراعينِ خادرٍ يدافع عنْ أشبالهِ ويحامي
وإني عزيزٌ الجار في كلِّ موطن وأُكرم نفْسي أنْ يهونَ مقامي
هجرت البيوت المشرفاتِ وشاقني بريق المواضى تحت ظلّ قتام
وقد خيَّروني كأْسَ خمْرٍ فلم أجد سوى لوعة ٍ في الحرب ذاتِ ضِرامِ
سأرحل عنْكم لا أزور دياركم وأقصدها في كلِّ جنح ظلام
وأطْلب أعدائي بكل سمَيذع وكل هزبرٍ في اللقاء همام
مُنِعتُ الكَرى إن لم أَقدْها عوابساً عليها كرامٌ في سروج كرام
تهزُّ رماحاً في يديْها كأَنَّما سقين من اللَّبات صرف مدام
إذا أشْرَعوها للطعان حَسِبْتها كواكب تهديها بدور تمام
وبيض سيوفٍ في ظلال عجاجة كقطر عوادٍ في سوادِ غَمام
أَلاَ غنيّا لي بالصّهيل فإنَّه سَماعي ورَقْراقُ الدماءِ نِدامي
وحطَّا على الرَّمضاءِ رحلي فإنها مقيلي وإخفاقُ البنودِ خيامي
ولا تذْكرا لي طيبَ عيْش فإنما بلوغُ الأّماني صحَّتي وسقامي
وفي الغزو ألقى أرغدَ العيش لذَّة ً وفي المجدِ لا في مشربٍ وطعام
فماليَ أرضى الذُّلَّ حظّاً وصارمي جريءٌ على الأعناق غير كهام
ولي فرسٌ يحْكي الرِّياح إذا جرى لأبعدِ شأو من بعيد مرام
يجيبُ إشاراتِ الضَّمير حساسة ً ويغنيكَ عن سوطٍ لهُ ولجام
وهذا الفارس النبيل صاحب المبادئ ، يخوض غمار الفيافي والجى غير هياب ، سواء كان معه من يناصره أو كان مفردا ، فهاهو يسير في في الصحراء المقفرة لا أنيس له إلا البد ، والنسر ، والغول الخائف المضطرب ، والثريا والسحاب ، كل هذا وسيف عنترة حين يبزغ يرتعد الجن والغول خوفا من حد سيفه ، ولنسمعه يرسم صورة كلية لمسافر في الصحراء على فرسه ، الليل يحيط به ، والنجوم تؤنسه ، والغول والجن يتربص به ، ما أجمل هذه اللوحة ذات الألوان والظلال ، والحركة والسكون ، والهمس والضجيج ، والرعب والوحشة ، وكل ما يمكن أن تطلبه صورة رائعة موحية من صوت ولون و إيحاء ، فإذا استطعت اليوم شيئا فافعل ، هكذا قال عنترة:
دع ما مَضى لكَ في الزَّمان الأَوَّل وعلى الحقيقة إنْ عزمت فعوِّل
إنْ كنتَ أنتَ قطعتَ برَّا مقفراً وسلكْتهُ تحتَ الدُّجى في جَحْفل
فأَنا سريتُ معَ الثُّريَّا مُفرداً لا مؤنسٌ لي غيرَ جدّ المنصل
والبدرُ منْ فوق السحاب يسوقه فيسير سيرَ الراكب المستعجل
والنَّسْرُ نحْو الغَربِ يرْمي نفسَه فيكاد يعْثر بالسِّماكِ الأَعزل
والغُولُ بينَ يديَّ يخفى تارة ويعودَ يَظْهَرُ مثْلَ ضَوْءِ المَشْعَلِ
بنواظر زرقٍ ووجهٍ أسودٍ وأظافر يشبهنَ حدَّ المنجل
والجن تفرقُ حول غاباتِ الفلاَ بهماهمٍ ودمادمٍ لمَ تغْفَلِ
وإذا رأْتْ سيفي تضِجُّ مخافة ً كضَجيجِ نُوقِ الحيِّ حَوْلَ المنزل
تلكَ الليالى لو يمرُّ حديثها بوليدِ قومٍ شاب قبلَ المحمل
فاكففْ ودعْ عنكَ الإطالة َ واقتصرْ وإذا اسْتَطعْتَ اليَوْمَ شيئاً فافْعل
وحينما يمر البطل المغوار الذي تهابه الجن ويخافه الغول عندما يمر على ديار الأبطال ، يرحل عنها وقد تحول أبطالها إلى جماجم وعظام ، فأي صورة أروع للقوة والبسالة ممكن أن يرسمها شاعر كقول عنترة:
لا تَقْتضِ الدَّيْنَ إلاّ بالقَنا الذُّبُلِ ولاتحكمْ سوى الأسياف في القلل
ولاَ تُجاورْ لئاماً ذَلَّ جارُهُمُ وخلِّهمْ في عِرَاصِ الدَّارِ وارْتَحلِ
وَلاَ تَفِرَّ إذا ما خُضْتَ معركة ً فما يَزيدُ فِرارُ المرْءِ في الأَجل
يا عبلَ أنتِ سَوادُ القلْبِ فاحْتكِمي في مُهْجَتي واعدِلي يا غايَة َ الأَملِ
وإن ترحلتِ منْ عبس فلاّ تقفي في دارِ ذُلٍّ ولا تُصْغي إلى العَذَلِ
لأَنَّ أرْضهُمُ منْ بعدِ رِحْلتِنا تبقى بلاَ فارس يُدْعَى ولا بَطَلِ
سلي فزَارَة َ عنْ فِعْلي وقد نفَرتْ في جحفل حافل كالعارض الهطل
تَهُزُّ سُمْرَ القَنَا حِقْداً عَليَّ وقد رأَتْ لَهيبَ حُسامي ساطعَ الشُّعَلِ
يخبرْكِ بدرُ بنُ عمْروٍ أَنني بَطلٌ ألقى الجيوش بقلبٍ قدَّ منْ جبل
قاتلتُ فرسانَهم حتى مضَوْا فرقاً والطعنُ في إثرهمْ أمضى منَ الأجل
وعادَ بي فرَسي يمشي فتعثرهُ جماجمٌ نثرتْ بالبيض والأسل
وقد أسرتُ سَراة َ القومِ مقتدراً وعدت من فرحي كالشَّارب الثَّمل
يا بينُ رَوَّعْتَ قلبي بالفِراق وما أبكي لِفُرْقة ِ أصْحابٍ ولا طَلل
بل منْ فراق التي في جفنها سقمٌ قد زادني عللاً منه على عللي
أُمسي على وَجلٍ خَوْفَ الفِرَاقِ كما تمسي الأَعاديُّ من سيفي على وَجل
منْ لي برد الصَبا واللَّهووالغَزل هيهاتَ ما فاتَ منْ أَيَّامِكَ الأَوَّل
طوى الجَديدانِ ما قد كنْتُ أنْشُرُهُ وأنكرتني ذواتُ الأعينِ النجُل
وما ثنى الدَّهْرُ عزْمي عنْ مُهاجمة ٍ وخَوْضِ مَعْمَعة ٍ في السَّهْل والجبل
في الخيل والخافِقاتِ السُّودِ لي شُغُلٌ ليْس الصَّبابة ُ والصهباء من شُغُلي
لقد ثناني النهى عنها وأدبي فلسْتُ أبكي على رسْمٍ ولا طَلل
سلوا جوادي عني يوْمَ يحْملني هل فاتني بطلٌ أو حلتُ عن بطل
وكم جُيوشٍ لقد فرَّقتُها فِرْقاً وعارضُ الحتفِ مثلُ العارضِ الهطل
وموكبٍ خضتُ أعلاهُ وأسفله بالضَّرْبِ والطَّعنِ بينَ البيضِ والأَسل
ماذا أُريدُ بقوْمٍ يَهْدِرُونَ دمي ألستُ أولاهمُ بالقولِ والعمل
لا يشربُ الخمرإلا منْ له ذممٌ ولا يبيت لهُ جارٌ على وَجل
وكأي شهم نبيل يدافع عنترة عن نفسه ، ويخبر حبيبته أن سواد اللون ، غير بياض القلب ، والمرء أفعال ، وأفعال عنترة كلها خصال حميدة ، ونراه يدعو نفسه للصبر والاحتمال على ظلم من ظلموه حتى يبين الحق ، ويدخل معهم في جدال حول ماهية الشرف والنبل ، فيقول:
أُعادي صَرْفَ دَهْرٍ لا يُعادى وأحتملُ القطيعة والبعادا
وأظهرُ نُصْحَ قَوْمٍ ضَيَّعُوني وإنْ خانَت قُلُوبُهُمُ الودَادا
أعللُ بالمنى قلبا عليلا وبالصبر الجميلِ وان تمادى
تُعيّرني العِدى بِسوادِ جلْدي وبيض خصائلي تمحو السَّوادا
سلي يا عبلَ قومك عنْ فعالي ومَنْ حضَرَ الوقيعَة َ والطّرادا
وردتُ الحربَ والأبطالُ حولي تَهُزُّ أكُفُّها السُّمْرَ الصّعادا
وخُضْتُ بمهْجتي بحْرَ المَنايا ونارُ الحربِ تتقدُ اتقادا
وعدتُّ مخضباً بدَم الأعادي وكَربُ الرَّكض قد خضَبَ الجودا
وكمْ خلفتُ منْ بكرٍ رداحٍ بصَوْتِ نُواحِها تُشْجي الفُؤَادا
وسَيفي مُرْهَفُ الحدَّينِ ماضٍ تَقُدُّ شِفارُهُ الصَّخْرَ الجَمادا
ورُمحي ما طعنْتُ به طَعيناً فعادَ بعينيهِ نظرَ الرشادا
ولولا صارمي وسنانُ رمحي لما رَفَعَتْ بنُو عَبْسٍ عمادا
وكعادة الفرسان لا يحصلون على مجدهم إلا بالجد والاجتهاد ، ويقول عنترة حامدا من ينال مجده بالجد وبحد السيف ، فلا مجد بلا تعب أو اجتهاد فيقول:
لأَيِّ حَبيبٍ يَحْسُنُ الرَّأْيُ والوُدُّ وأكثرُ هذا الناسِ ليس لهم عهدُ
أريدُ منَ الأَيَّامِ ما لا يَضُرُّها فهل دافعٌ عنيَّ نوائبها الجهد
وما هذهِ الدنيا لَنا بمطيعة ٍ وليسَ لخلقٍ من مداراتها بدُ
تَكونُ المَواليَ والعبيدُ لعاجزٍ ويخدم فيها نفسهُ البطلُ الفردُ
وكل قريبٍ لي بعيدُ مودة ٍ وكلّ صديقٍ بين أضلعهِ حقدُ
فللهَ قلبٌ لا يبلُّ عليلهُ وِصالٌ ولا يُلْهِيهِ من حَلّهِ عَقْدُ
يكلّفني أن أطْلُبَ العِزِّ بالقنا وأيْنَ العُلا إنْ لم يُسَاعِدنيَ الجدُّ
أُحِبُّ كما يَهْواهُ رُمحي وَصارمي وَسابغة ٌ زغْفٌ وسابغة ٌ نَهْدُ
فيالكَ منْ قلبٍ توقدَ في الحشا ويالكَ منْ دمعٍ غزيرٍ له مدُّ
وإنْ تظهرِ الأيامُ كلَّ عظيمة ٍ فلي بين أضلاعي لها أسدٌ وردُ
إذا كان لا يمضي الحسامُ ينفسهِ فللضاربِ الماضي بقائمهِ حدُ
وحَوْلي منْ دُونِ الأَنامِ عِصابة ٌ توددها يخفي وأضغانها تبدو
يَسُرُّ الفتى دهْرٌ وقد كانَ ساءَهُ وتَخْدُمُهُ الأَيَّامُ وهو لها عَبْدُ
ولا مالَ إلاّ ما أَفادكَ نَيْلُهُ ثناءٌ ولا مالٌ لمنْ لاله مجدُ
ولا عاشَ إلا منْ يصاحبُ فتية ٌ غَطاريفَ لا يَعْنيهمُ النَّحْسُ والسَّعد
إذا طلبوا إلى الغزو شمروا وإن نُدِبُوا يوْماً إلى غَارَة ٍ جَدّوا
ألاليت شعري هل تبلغني المنى وتلقى بي الأعداء سابحة ٌ تعدو
جوادٌ اذا شقَّ المحافلَ صدرهُ يَرُوحُ إلى ظُعْنِ القَبائلِ أو يغْدو
خفيت على إثر الطريدة ِ في الفلا إذا هاجَتِ الرَّمْضاءُ واختَلَفَ الطَّرْدُ
وَيَصْحُبني من آلِ عَبْسٍ عِصابة ٌ لها شرفٌ بين القبائل يمتد
بَهاليلُ مثلُ الأُسدِ في كلِّ مَوْطِنٍ كأنَّ دمَ الأعداءِ في فمهمْ شهدُ
والفارس النبيل عندما يرى الطلول يأخذ منها العبرة والعظة فيقول:
جازتْ ملماتُ الزَّمانِ حدودها واسْتَفْرغَتْ أيَّامُها مجهُودَها
وقضت علينا بالمنونِ فعوَّضتْ بالكرهِ منْ بيضِ الليالي سُودها
بالله ما بالُ الأَحبَّة ِ أعْرضَتْ عنَّا ورامتْ بالفراقِ صُدودها
رضيتُ مصاحبة َ البلى واستوطنتْ بَعْد البُيُوتِ قُبُورَها ولحُودها
حرصتْ على طولِ البقاءِ وإنما مبدي النفوس أبادها ليعيدَها
عبثتْ بها الأيامُ حتى أوثقت أيدي البِلى تحْتَ التُّرابِ قيودها
فكأنما تلكُ الجسومُ صوارمٌ نحت الحمامِ من اللحودِ غمودها
نَسَجَتْ يَدُ الأَيّامِ منْ أكْفانَها حللاً وألقتْ بينهنّ عقودها
وكسا الرّبيعُ رُبُوعَهَا أَنْوَارَهُ لما سقتها الغادياتُ عهودها
وسرى بها نشرُ النسيم فعطرتْ نفحاتُ أرواحِ الشَّمالِ صَعيدَها
هل عيشة ٌ طابَتْ لنا إلاّ وقد أبْلى الزَّمانُ قديمَها وجديدَها
أو مقلة ٌ ذاقت كراها ليلة ً إلاّ وأعقبتِ الخطوبُ هُجُودَها
أو بنية ٌ للمجدِ شيدَ أساسها إلاّ وقد هَدَمَ القضاءُ وطيدَها
شقّتْ على العَليا وفاة ُ كريمة ٍ شقّتْ عليها المكْرماتُ بُرُودها
وعزيزَة ٍ مفْقودة ٍ قد هوَّنتْ مُهَجُ النّوافلِ بعدها مفقُودَها
ماتتْ ووُسِّدَتِ الفَلاَة َ قتيلة ً يا لهْفَ نفسِي إذْ رأتْ توْسيدَها
يا قيْسُ إنّ صدُورَنا وَقَدتْ بها نارٌ بأَضْلُعنا تَشُبُّ وقودَها
فانهضْ لأخذِ الثاّر غير مقصِّر حتى تُبيد من العداة ِ عديدها
ومن مكرمات النبلاء والشرفاء عشق الأوطان ، وإن اختلف معنى الوطن في تلك الأزمان عما نعنيه نحن بالوطن في هذه العصور ، ورغم التفرقة العنصرية التي كان يعاني منها ، إلا أن مكرماته كانت دائما ما تطغى على ظلم الأهل ، وكم من مرة سامحهم وغفر لهم ، فهم الأهل والولد ، وفيهم العشيقة وحبة روحه “عبلة” ، وعندما يرحل عنهم يحن إليهم ويقول:
إذا فاضَ دمعي واستهلّ على خدِّي وجاذبني شوقي إلى العلم السّعدي
أذكر قومي ظلمهم لي وبغيهم وقلة َ إنصافي على القربِ والبعدِ
بَنَيْتُ لهمْ بالسَّيفِ مجْداً مُشيّداً فلّما تناهى مجدهمْ هدموا مجدي
يعيبونَ لوني بالسواد وإنما فعالهم بالخبث أسودُ من جلدي
فواذلّ جيراني إذا غبتُ عنهمُ وطالَ المدَى ماذا يلاقونَ من بَعدي
أَتحْسبُ قَيْسٌ أنَّني بعد طردِهمْ أخافُ الأعادي أو أذلَُ من الطَّردِ
وكيفَ يحلَ الذُلّ قلبي وصارمي إذا اهتزَّ قَلْبُ الضَّدِّ يخْفِقُ كالرَّعْد
متى سلّ في كفِّي بيوم كريهة فلا فَرْقَ ما بيْنَ المشايخ والمُرْدِ
وما الفخرٌ إلاّ أنْ تكونَ عمامتي مكوّرة َ الأطرافِ بالصّارم الهندي
نديميّ إمّا غبتما بعد سكرة ٍ فلا تذكرا أطلالَ سلمى ولاهندِ
ولا تَذْكرا لي غيرَ خَيلٍ مُغيرة ٍ ونقعْ غبارٍ حالك اللّون مسودّ
فإنّ غبارَ الصّافِنات إذا علا نشقتُ لهُ ريحاً ألذَّ منَ النّدّ
وريحانتي رمحي وكاساتُ مجلسي جماجمُ ساداتِ حراصٍ على المجد
ولي منْ حسامي كلّ يوْمٍ على الثَرى نقوشُ دمٍ تغني النَّدامى عن الوردِ
وليْسَ يَعيبُ السَّيفَ إخلاقُ غِمْدِه إذا كانَ في يوم الوغى قاطع الحدّ
فلِلَّهِ دَرِّي كمْ غُبارٍ قطَعْتُهُ على ضامر الجنبين معتدلِ القدّ
وطاعنتُ عنه الخيل حتى تبّددت هزاماً كأسرابِ القطاءِ إلى الوردِ
فزَارة ُ قد هيَجتُم لَيثَ غابة ٍ ولم تفرقوا بين الضلالة ِ والرُّشدِ
فقولوا لِحصْنٍ إنْ تَعانَى عدَاوَتي يبيتُ على نارٍ من الحزنِ والوجدِ
ويشكو عنترة الفارس الذي لم تهمد له همه ، في شيخوخته من شيبته وبعد عن الأهل والولد ، الذين مات منهم من مات ، ورحل منهم من رحل ، فقال:
أَحْرَقَتْني نارُ الجَوى والبعادِ بَعد فَقْدِ الأَوْطانِ والأَولاد
شابَ رأسي فصارَ أبيض لوناً بعد ما كان حالكاً بالسواد
وتذكرتُ عبلة َ يومَ جاءت لوداعي والهمُّ والوجد باد
وَهي تُذْري من خيفَة ِ البُعْدِ دمْعاً مُستهِلاًّ بلَوْعة ٍ وَسُهاد
قلْتُ كِفِّي الدُّمُوعَ عنْكِ فقلبي ذاب حزناً ولوعتي في ازديادِ
ويحَ هذا الزَّمانِ كيفَ رَماني بسهامٍ صابتْ صميمَ فؤادي
غيرَ أني مثْلُ الحُسام إذا ما زادَ صقلاً جادّ يوم جلادِ
حنكتني نوائبُ الدهر حتى أوقفتني على طريقِ الرشادِ
ولقيتُ الأبطالَ في كل حربٍ وهزمتُ الرجال في كلِّ وادي
وتركتُ الفرسانَ صرعى بطعنٍ منْ سِنانٍ يحْكي رُؤُوس المزاد
وحسامٍ قد كنتُ من عهد شدَّا دٍ قديماً وكانَ منْ عهدِ عادِ
وقهرتُ الملوكَ شرقاً وغرباً وأَبَدْتُ الأَقْرانَ يوْم الطِّراد
قلَّ صبري على فراق غصوبٍ وهْو قد كان عُدَّتي واعتِمادي
وكذا عروة ٌ وميسرة ٌ حا مي حمانَا عِند اصْطدام الجياد
لأَفُكَّنّ أَسْرَهُمْ عن قريبٍ منْ أيادِي الأَعداءِ والحُسَّاد
ومن شيم الفرسان النبلاء حفظ العهد والتمسك به فيقول عنترة في ذلك:
إذا الريحُ هبَّتْ منْ ربى العلم السعدي طفا بردها حرَّ الصبابة ِ والوجدِ
وذكرني قوماً حفظتُ عهودهمْ فما عرفوا قدري ولا حفظوا عهدي
ولولاَ فتاة ٌ في الخيامِ مُقيمَة ٌ لما اختَرْتُ قربَ الدَّار يوماً على البعدِ
مُهفْهَفة ٌ والسِّحرُ من لَحظاتها إذا كلمتْ ميتاً يقوم منْ اللحدِ
أشارتْ إليها الشمسُ عند غروبها تقُول: إذا اسودَّ الدُّجى فاطْلعي بعدي
وقال لها البدرُ المنيرُ ألا اسفري فإنَّك مثْلي في الكَمال وفي السَّعْدِ
فولتْ حياءً ثم أرختْ لثامها وقد نثرتْ من خدِّها رطبَ الورد
وسلتْ حساماً من سواجي جفونها كسيْفِ أبيها القاطع المرهفِ الحدّ
تُقاتلُ عيناها به وَهْوَ مُغمدٌ ومنْ عجبٍ أن يقطع السيفُ في الغمدِ
مُرنِّحة ُ الأَعطاف مَهْضومة ُ الحَشا منعمة الأطرافِ مائسة القدِّ
يبيتُ فتاتُ المسكِ تحتَ لثامها فيزدادُ منْ أنفاسها أرج الندّ
ويطلعُ ضوء الصبح تحتَ جبينها فيغْشاهُ ليلٌ منْ دجى شَعرها الجَعد
وبين ثناياها إذا ما تبسَّمتْ مديرُ مدامٍ يمزجُ الراحَ بالشَّهد
شكا نَحْرُها منْ عِقدها متظلِّماً فَواحَربا منْ ذلكَ النَّحْر والعقْدِ
فهل تسمح الأيامُ يا ابنة َ مالكٍ بوصلٍ يداوي القلبَ من ألم الصدِّ
سأَحْلُم عنْ قومي ولو سَفكوا دمي وأجرعُ فيكِ الصَّبرَ دونَ الملا وحدي
وحقّكِ أشجاني التباعدُ بعدكم فها أنتمُ أشجاكم البعدُ من بعدي
حَذِرْتُ من البيْن المفرِّق بيْننا وقد كانَ ظنِّي لا أُفارقكمْ جَهدي
فإن عانيت عيني المطايا وركبها فرشتُ لدَى أخْفافها صَفحة َ الخدّ
ويصف نفس الفارس النبيل وخصاله فيقول:
لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ ولا ينالُ العلى من طبعهُ الغضبُ
ومن يكنْ عبد قومٍ لا يخالفهمْ إذا جفوهُ ويسترضى إذا عتبوا
قدْ كُنْتُ فِيما مَضَى أَرْعَى جِمَالَهُمُ واليَوْمَ أَحْمي حِمَاهُمْ كلَّما نُكِبُوا
لله دَرُّ بَني عَبْسٍ لَقَدْ نَسَلُوا منَ الأكارمِ ما قد تنسلُ العربُ
لئنْ يعيبوا سوادي فهوَ لي نسبٌ يَوْمَ النِّزَالِ إذا مَا فَاتَني النَسبُ
إِن كُنتَ تَعلَمُ يا نُعمانُ أَنَّ يَدي قَصيرَةٌ عَنكَ فَالأَيّامُ تَنقَلِبُ
اليَومَ تَعلَمُ يا نُعمانُ أَيَّ فَتىً يَلقى أَخاكَ الَّذي قَد غَرَّهُ العُصَبُ
إِنَّ الأَفاعي وَإِن لانَت مَلامِسُها عِندَ التَقَلُّبِ في أَنيابِها العَطَبُ
ويصف نفسه أثناء المعارك فيقول:
فَتًى يَخُوضُ غِمَارَ الحرْبِ مُبْتَسِماً وَيَنْثَنِي وَسِنَانُ الرُّمْحِ مُخْتَضِبُ
إنْ سلَّ صارمهُ سالتَ مضاربهُ وأَشْرَقَ الجَوُّ وانْشَقَّتْ لَهُ الحُجُبُ
والخَيْلُ تَشْهَدُ لي أَنِّي أُكَفْكِفُهَا والطّعن مثلُ شرارِ النَّار يلتهبُ
إذا التقيتُ الأعادي يومَ معركة ٍ تَركْتُ جَمْعَهُمُ المَغْرُور يُنْتَهَبُ
لي النفوسُ وللطّيرِاللحومُ ولل ـوحْشِ العِظَامُ وَلِلخَيَّالَة ِ السَّلَبُ
لا أبعدَ الله عن عيني غطارفة ً إنْساً إذَا نَزَلُوا جِنَّا إذَا رَكِبُوا
أسودُ غابٍ ولكنْ لا نيوبَ لهم إلاَّ الأَسِنَّة ُ والهِنْدِيَّة ُ القُضْبُ
تعدو بهمْ أعوجيِّاتٌ مضَّمرة ٌ مِثْلُ السَّرَاحِينِ في أعناقها القَببُ
ما زلْتُ ألقى صُدُورَ الخَيْلِ منْدَفِقاً بالطَّعن حتى يضجَّ السَّرجُ واللَّببُ
فا لعميْ لو كانَ في أجفانهمْ نظروا والخُرْسُ لوْ كَانَ في أَفْوَاهِهمْ خَطَبُوا
والنَّقْعُ يَوْمَ طِرَادِ الخَيْل يشْهَدُ لي والضَّرْبُ والطَّعْنُ والأَقْلامُ والكُتُبُ
وفي المقطوعة التالية ، نرى عنترة يوجز حال الفارس الشجاع الذي لا يهاب الموت ، فالموت في معارك الشرف والكرامة أعز من الحياة التي يكتنفها الجبن والذل:
إذا قنعَ الفتى بذميمِ عيشِ وَكانَ وَراءَ سَجْفٍ كالبَنات
وَلمْ يَهْجُمْ على أُسْدِ المنَايا وَلمْ يَطْعَنْ صُدُورَ الصَّافِنات
ولم يقرِ الضيوفَ إذا أتوهُ وَلَمْ يُرْوِ السُّيُوفَ منَ الكُماة ِ
ولمْ يبلغْ بضربِ الهامِ مجداً ولمْ يكُ صابراً في النائباتِ
فَقُلْ للنَّاعياتِ إذا بكَتهُ أَلا فاقْصِرْنَ نَدْبَ النَّادِباتِ
ولا تندبنَ إلاَّ ليثَ غابٍ شُجاعاً في الحُروبِ الثَّائِراتِ
دَعوني في القتال أمُت عزيزاً فَموْتُ العِزِّ خَيرٌ من حَياتي
لعمري ما الفخارُ بكسْب مالٍ ولا يُدْعى الغَنيُّ منَ السُّرَاة ِ
ستذكُرني المعامعُ كلَّ وقتٍ على طُولِ الحياة ِ إلى المَمات
فذاكَ الذِّكْرُ يبْقى لَيْسَ يَفْنى مَدى الأَيَّام في ماضٍ وآت
وإني اليومَ أَحمي عِرْضَ قومي وأَنْصُرُ آلَ عَبْسَ على العُدَاة ِ
وآخذُ مَالنا منْهُمُ بحَرْبٍ تَخِرُّ لها مُتُونُ الرَّاسيَاتِ
وأَتْرُكُ كلَّ نائِحَة ٍ تُنادي عليهم بالتفرقِ والشتاتِ
والفرسان النبلاء يعتبرون حفظ الجميل شيمة من شيم العظماء ، وهي مكرمة عربية يعتز بها الجاهلي ، فكان من الطبيعي أن يتمسك بها فارس نبيل مثل عنترة بن شداد ، ويذم من لا يتمسك بها فنراه يقول:
إذا جحدَ الجميلَ بنو قرادٍ وجازَى بالقَبيح بَنو زيادِ
فَهُمْ ساداتُ عَبْسٍ أيْنَ حَلُّوا كما زعمُوا وفَرْسانُ البلادِ
وَلا عَيْبٌ عليَّ ولا مَلامٌ إذا أصلحتُ حالي بالفسادِ
فإنَّ النارَ تضرمُ في جمادٍ إذا ما الصخرُ كرَّ على الزنادِ
ويُرْجَى الوصْلُ بعدَ الهَجْر حيناً كما يرجى الدنوُّ منَ البعادِ
حَلُمْتُ فما عَرَفتُمْ حقَّ حِلمي ولا ذكرَتْ عشيرَتكُمْ ودادي
سأَجْهلُ بعدَ هذا الحلم حتى أُريقَ دَمَ الحواضِر والبَوادي
ويشكوا السيفُ منْ كفي ملالاً ويسأمُ عاتقي حملَ النجادِ
وقد شاهدتمُ في يومْ طيَّ فعالي بالمهندة ِ الحدادِ
رَدَدتُ الخَيْلَ خاليَة ً حَيارَى وسُقْتُ جيادَها والسَّيفُ حادِي
ولو أنّ السنانَ لهُ لسانُ حكَى كَمْ شكَّ دِرْعاً بالفُؤَاد
وكم داع ِدعا في الحرب باسمي وناداني فَخُضتُ حَشا المنادي
يردُ جوابهُ قولاً وفعلاً ببيضِ الهند والسُّمرِ الصعادِ
فكن ياعمرو منه على حذارِ ولا تملأْ جفُونَكَ بالرُّقاد
ولولا سيدٌ فينا مطاعٌ عظيم القدر مرتفعُ العمادِ
أقمتُ الحقَّ في الهنديَّ رغماً وأظهَرْتُ الضَّلال منَ الرَّشاد
ويتحدث عن شجاعته كفارس نبيل ، يحارب من أجل الحق والحرية فيقول:
ألا مَنْ مُبْلغٌ أهلَ الجُحُود مَقالَ فتى ً وَفيٍّ بالعُهُود
سأخرجُ للبرازِ خلى َّ بالِ بقَلبٍ قُدَّ منْ زُبَرِ الحديدِ
وأطعنُ بالقنا حتى يراني عَدوي كالشرارة ِ من بعيد
إذا ما الحربُ دارتْ لي رَحاها وطاب المَوْتُ للرَّجُلِ الشَّدِيد
تَرَى بيضاً تَشَعْشَعُ في لَظاها قد التصقت بأعضادِ الزنود
فأقحمُها ولكن معْ رجالٍ كأَنَّ قلوبها حَجَرُ الصَّعيد
وَخَيْلٍ عُوِّدتْ خَوْضَ المنايا تُشَيِّبُ مَفْرِقَ الطفْلِ الوليدِ
سأَحمِلُ بالأُسودِ على أسودٍ وأخْضِبُ ساعدي بدمِ الأُسود
بمَمْلكَة ٍ عليها تَاج عِزٍّ وَقَوْمٍ من بني عَبْسٍ شُهود
فأَما القائلونَ هزبرُ قومٍ فَذَاكَ الفَخرُ لا شَرَفُ الجدود
وأمَّا القائِلونَ قَتيلُ طَعْنٍ فذلك مصرع البطل الجليد
وهذا الفارس النبيل يحفظ عورات النساء وشرفهم بحد السيف ، وهو الفارس الذي دافع عن حياض وشرف بنات عبس ، فيقول:
ألاّ قاتل الله الطلولَ البواليا وقاتل ذِكراكَ السنين الخَواليا
وقولك للشيء الذي لا تنالهُ إذا ما حَلاَ في العين: يا ليتَ ذا ليا
ونحن منعنا بالفروق نساءَنا نطرفُ عنها مشعلات غواشيا
حلَفنا لهمْ والخيلُ تَردي بنا معاً نزايلُهُمْ حتى يَهِّروا العواليا
عواليَ زُرْقاً من رماحٍ رُدينَة ٍ هرير الكلاب يتقين الأفاعيا
تَفاديتُم أَسْتاهَ نيبٍ تجَمَّعتْ على رِمَّة ٍ من ذي العِظام تفاديا
ألم تعلموا أنَّ الأسنة أحرزتْ بقيتنا لو أن للدهر باقياً
ونحْفظ عورَاتِ النِّساءِ ونتَّقي عليْهنَّ أنْ يلْقينَ يوْماً مخازيا
أبينا أبينا أن تضبَّ لثاتكمْ على مرشِفاتٍ كالظّباء عوَاطيا
وقلت لمن قد أحضرَ الموتَ نفسه ألاَ من لأَمر حازمٍ قد بدا ليا
وقلت لهم ردوا المغيرة عن هوَى سوابقها وأقبلوها النواصيا
وإنا نقودُ الخيل تحكي رؤوسها رؤوس نساءٍ لا يجدن فواليا
فما وَجدُونا بالفَرُوق أُشابة ً ولا كشفاً ولا دعُينا مواليا
تعالوا إلى ما تعلمون فإنني أرى الدَّهْر لا يُنْجي من المَوتِ ناجيا
ورغم المصائب التي أصابت عنترة في حياته ، وماواجهه من عند الأهل وظلمهم ، وتجني الأحبة وغدرهم ، وحرب الأعداء ونحرهم ، إلا أن الفارس النبيل لا يستسلم ، بل يقاتل في كل الأصعدة ، تحقيقا لأحلامه الكبيرة ، فيقول:
دهتْني صروفُ الدّهر وانْتَشب الغَدْرُ ومنْ ذا الذي في الناس يصفو له الدهر
وكم طرقتني نكبة ٌ بعد نكبة ٍ ففَرّجتُها عنِّي ومَا مسَّني ضرُّ
ولولا سناني والحسامُ وهمتي لما ذكرتْ عبسٌ ولاَ نالها فخرُ
بَنَيْتُ لهم بيْتاً رفيعاً منَ العلى تخرُّ له الجوْزاءُ والفرغ والغَفْرُ
وها قد رَحَلْتُ اليَوْمَ عنهمْ وأمرُنا إلى منْ له في خلقهِ النهى والأمر
سيذْكُرني قَومي إذا الخيْلُ أقْبلت وفي الليلة ِ الظلماءِ يفتقدُ البدر
يعيبون لوني بالسواد جهالة ولولا سواد الليل ما طلع الفجر
وانْ كانَ لوني أسوداً فخصائلي بياضٌ ومن كَفيَّ يُستنزل القطْر
محوتُ بذكري في الورى ذكر من مضى وسدتُ فلا زيدٌ يقالُ ولا عمرو
ومن شيم الفرسان النبلاء ، عشقهم الفطري لحياة الحرية ، والفطرة البدوية ، التي هي أغلى عنده من اللآلي والمال ، ويؤكد على هذه المعاني الجميلة شعرا فيقول:
بَرْدُ نَسيم الحجاز في السَّحَرِ إذا أتاني بريحهِ العطِرِ
ألذُ عندي مما حوتهُ يدي من اللآلي والمال والبدَر
ومِلْكُ كِسْرَى لا أَشتَهيه إذا ما غابَ وجهُ الحبيبِ عن النظر
سقى الخيامَ التي نُصبنَ على شربَّة ِ الأُنسِ وابلُ المطر
منازلٌ تطلعُ البدورُ بها مبرقعاتٍ بظلمة ِ الشَّعرِ
بيضٌ وسمرٌ تحمي مضاربها أساد غابٍ بالبيضِ والسُّمر
صادتْ فُؤادي مِنهُنَّ جارية ٌ مكْحولة ُ المقْلتين بالحور
تريك من ثغرها إذا ابتسمت كاسَ مدامٍ قد حفّ بالدرّر
أعارت الظبي سحر مقلتها وباتَ ليثُ الشَّرَى على حذَر
خودٌ رداحٌ هيفاءُ فاتنة ٌ تُخجلُ بالحُسنِ بهجة َ القمر
يا عبلَ نارُ الغرام في كَبدي ترمي فؤادي بأسهم الشرر
يا عبلَ لولا الخيالُ يطرقُني قضيت ليلي بالنوح والسَّهر
يا عبلَ كَمْ فِتْنة ٍ بَليتُ بها وخُضتُها بالمُهنَّدِ الذَّكر
والخيلُ سُودُ الوجوه كالحة ٌ تخوض بحر الهلاكِ والخطر
أُدَافعُ الحادثاتِ فيكِ ولاَ أطيق دفعَ القضاء والقدر
ويمدح الملك النعمان صاحب الفضل عليه ، والذي أهداه النياق الحمر التي طلبها عمه مهرا لعبلة فيقول:
يا أيها الملكُ الذي راحاتُهُ قامَتْ مَقامَ الغيْثِ في أزمانِهِ
يا قِبْلَة َ القُصَّادِ يا تاجَ العُلا يا بدْر هذا العصر في كيوانه
يا مُخجِلاً نَوْءَ السَّماء بجُودهِ يا مُنْقذَ المحزونِ منْ أحزانه
يا ساكِنينَ ديارَ عبْسٍ إنني لاَقيْتُ منْ كِسرى ومنْ إحْسانه
ما ليْس يوصَفُ أو يُقَدَّرُ أوْ يَفي أوْصافَهُ أحدٌ بوَصْفِ لسانه
ملكٌ حوى رتبَ المعالي كلّها بسموِّ مجدٍ حلَّ في إيوانه
مولى به شرفَ الزَّمانُ وأهلهُ والدَّهْرُ نالَ الفَخْرَ من تيجانه
وإذا سطا خافَ الأنامُ جميعهم منْ بأْسهِ واللّيثُ عنْد عِيانِه
المظهرُ الإنصاف في أيَّامهِ بخصالهِ والعدلَ في بلدانهِ
أمسيتُ في ربعٍ خصيبٍ عندهُ متنَزِّهاً فيه وفي بسْتانهِ
ونظَرْتُ برْكَته تَفيضُ وماؤها يَحْكي مواهِبَه وجودَ بنانه
في مَربَعٍ جمَعَ الرَّبيعَ بربْعهِ من كلِّ فنِّ لاحَ في أفنانه
وطُيورُهُ منْ كلِّ نوْعٍ أَنْشَدَتْ جهراً بانَّ الدَّهرَ طوعُ عنانه
ملكٌ إذا ما جالَ في يوم اللّقا وَقَفَ العدُّو مُحيَّراً في شانه
والنَّصْرُ من جُلَسائِهِ دونَ الورى والسَّعد والإقبالُ من أعوَانه
فلأشكرنَّ صنيعه بينَ الملا وأُطاعِنُ الفُرْسانَ في مَيْدانِهِ
ومن كل ماسبق نستطيع التأكيد على شيئين أساسيين في أخلاق الفروسية عند عنترة:
الأول: أخلاق الفروسية كاملة ومتأصلة فيه فهو سمح كريم في وقت السلم ، لايحب الظلم ومستعد للنضال وبذل النفس والنفيس في سبيل الدفاع عن المظلوم ونصرة الحق.
الثاني: استطاع عنترة الشاعر الفارس أن يصور لنا أخلاق الفوارس في ذلك العصر بقوة شاعرية رائعة وحنكة فنان شاعر يدرك أبعاد الفن الشعري وطرائق تعبيره ، وكيف يستطيع أن يرسم الصور المعبرة الموحية بالمعنى ، والمستقاة من البيئة المحيطة به ، فنستطيع أن نسمي تلك المكارم ونعرف أخلاق الفوارس ، وكيف تصرف الفوارس النبلاء في المواقف المختلفة ، وكذا البيئة التي عاش فيها هؤلاء الشعراء.
ولم يكن عنترة ذلك الصعلوك المتمرد على قوانين القبيلة والبيئة البدوية الجاهلة ، ولكنه الفارس الذي خاض غمار الحرب ، من أجل الشرف والمبادئ الكريمة ، وهو العاشق الذي يبتهل في محراب محبوبه ليل نهار ، ولم يكن المتبذل الذي يسعى وراء إشباع رغباته الجسدية ولكنه العاشق الذي يعشق جمال روح محبوبه ، ابنة عمه عبيلة بنت مالك ، تلك الجميلة من أشراف بني عبس ، التي علقت بقلب عنتره منذ صباه ، فيقول وهو مما قاله في صباه:
رمتِ الفؤادَ مليحة ٌ عذراءُ بسهامِ لحظٍ ما لهنَّ دواءُ
مَرَّتْ أوَانَ العِيدِ بَيْنَ نَوَاهِدٍ مِثْلِ الشُّمُوسِ لِحَاظُهُنَّ ظِبَاءُ
فاغتالني سقمِى الَّذي في باطني أخفيتهُ فأذاعهُ الإخفاءُ
خطرتْ فقلتُ قضيبُ بانٍ حركت أعْطَافَه ُ بَعْدَ الجَنُوبِ صَبَاءُ
ورنتْ فقلتُ غزالة ٌ مذعورة ٌ قدْ راعهَا وسطَ الفلاة ِ بلاءُ
وَبَدَتْ فَقُلْتُ البَدْرُ ليْلَة َ تِمِّهِ قدْ قلَّدَتْهُ نُجُومَهَا الجَوْزَاءُ
بسمتْ فلاحَ ضياءُ لؤلؤ ثغرِها فِيهِ لِدَاءِ العَاشِقِينَ شِفَاءُ
سَجَدَتْ تُعَظِّمُ رَبَّها فَتَمايلَتْ لجلالهِا أربابنا العظماءُ
يَا عَبْلَ مِثْلُ هَواكِ أَوْ أَضْعَافُهُ عندي إذا وقعَ الإياسُ رجاءُ
إن كَانَ يُسْعِدُنِي الزَّمَانُ فإنَّني في هَّمتي لصروفهِ أرزاءُ
وينقلنا عنترة معه إلى أجمل قصة حب في تاريخ الأدب العربي ، عشقه لعبلة ابنة عمه مالك فيقول:
سأُضْمِرُ وجدي في فؤَادي وأكْتُم وأَسْهرُ ليلي والعواذلُ نوَّمُ
وأطْمعُ من دَهري بما لا أنالهُ وألزمُ منه ذلَّ من ليسَ يرحمْ
وأرجو التداني منكِ يا ابنة مالكٍ ودونَ التَّداني نارُ حَرْبٍ تُضَرَّمُ
فمني بطيفِ من خيالكِ واسألي إذا عادَ عني كيفَ باتَ المتيَّمُ
ولا تَجْزَعي إنْ لَجَّ قوْمُكِ في دَمي فما لي بعْدَ الهجرِ لَحمٌ ولا دَمُ
ألم تسمعي نوحَ الحمائمٍ في الدجى فمنْ بعض أشجاني ونوحي تعلّموا
ولم يبْقَ لي يا عبلَ شخْصٌ معَرَّفٌ سوى كبدٍ حَرَّى تذوبُ فأَسقمُ
وتلكَ عِظامٌ بالياتٌ وأَضْلعٌ على جلدِها جيْشُ الصُّدودِ مخيِّمُ
وإنْ عشْتُ منْ بَعد الفراقِ فما أنا كما أدَّعي أني بعبلة َ مُغْرَمُ
وإنْ نامَ جفني كانَ نومي علالة ً أقولُ لعلَّ الطَّيف يأتي يسلّم
أَحِنُّ إلى تلكَ المنازلِ كلّما غدَا طائرٌ في أيكَة ٍ يترَنَّمُ
بكيتُ من البيْنِ المُشِتِّ وإنني صبورٌ على طعن القنا لو علمتُم
هذا الفارس العاشق سلم قلبه لمحبوبته ، في كل الأحوال ، فيقول:
لو كان قلبي معى ما اخترتُ غيركم ولا رضيتُ سِوَاكُمْ في الهَوى بدَلا
لكنهُ راغبٌ في منْ يعذّبه فليسَ يقبل لا لوماً ولا عذلا
ورغم كل ما كان يعانيه عنترة من ظلم أهله و أهل عبلة فقد ظل وفيا لعهدها وحبها الذي ينمو في قلبه وما طلب غيرها أبدا في الهوى ، وهو على هذا الحب يرعاه وينميه ، ويغفر في حبه لأهله وأهل عبلة تجنيهم عليه ، هذا الفارس النبيل والعاشق المكلوم يقول:
ألا ياعبلُ قد زادَ التصابيْ ولجَّ اليومَ قومُكِ في عذابي
وظلَّ هواكِ ينمو كلَّ يومٍ كما ينْمو مشيبي في شَبابي
عتبتُ صروفَ دهري فيكِ حتى فَني وأَْبيكِ عُمْري في العِتابِ
وَلاقيْتُ العِدى وحفِظتُ قوْماً أضاعُوني وَلمْ يَرْعَوا جَنابي
سلي يا عبلُ عنَّا يومَ زرنا قبائل عامرٍ وبني كلابِ
وكمْ من فارس خلّيتُ مُلقى خضيب الراحتينِ بلا خضابِ
يحركُ رجلهُ رعباً وفيهِ سنانُ الرُّمح يلمعُ كالشَّهابِ
قتلنا منهمُ مئتين حرَّا وألفاً في الشِّعابِ وفي الهضابِ
وعندما تتمرد عليه عبلة ، يجفوها جفاءا ضاهرها ، ويخبرها أنه قد سلا هواها ، ولكن هيهات ، لا يلبث أن يعود يبثها شكواه ، وحبه ، ويخبرها أن العمر يمر وأيام الجفاء لا تليق ، فلتغنم هي وهو أيام الجمال القليلة ، و لا يضيعون تلك الأيام في الهجر والجفاء ، ولنسمعه مخاطبا إياها:
سَلا القلبَ عَمّا كان يهْوى ويطْلبُ وأصبحَ لا يشكو ولا يتعتبُ
صحا بعدَ سُكْرٍ وانتخى بعد ذِلَّة ٍ وقلب الذي يهوى ْ العلى يتقلبُ
إلى كمْ أُداري من تريدُ مذلَّتي وأبذل جهدي في رضاها وتغضبُ
عُبيلة ُ! أيامُ الجمالِ قليلة ٌ لها دوْلة ٌ معلومة ٌ ثمَّ تذهبُ
فلا تحْسبي أني على البُعدِ نادمٌ ولا القلبُ في نار الغرام معذَّبُ
وقد قلتُ إنِّي قد سلوتُ عَن الهوى ومَنْ كان مثلي لا يقولُ ويكْذبُ
هَجرتك فامضي حيثُ شئتِ وجرِّبي من الناس غيري فاللبيب يجرِّبُ
لقدْ ذلَّ منْ أمسى على رَبْعِ منْزلٍ ينوحُ على رسمِ الدَّيار ويندبُ
وقدْ فاز منْ في الحرْب أصبح جائلا يُطاعن قِرناً والغبارُ مطنبُ
نَدِيمي رعاكَ الله قُمْ غَنِّ لي على كؤوسِ المنايا مِن دمٍ حينَ أشرَبُ
ولاَ تسقني كأْسَ المدامِ فإنَّها يَضلُّ بها عقلُ الشُّجَاع وَيذهَبُ
ولنقرأ معا هذه القصيدة الرائعة التي يشكو فيها زمانه ، وزمان الهجر من عبلة ، فحساناته عند الزمان ذنوب ، وفعالي مذمة وعيوب ، ثم يكمل شمواه من الهوى الذي لا يشفى منه ، و من ظلم الأحبة ، ما أرعه هنترة في وصف حبه لعبلة إذ يقول فكأنَّ “الزمانَ يهوى حبيباً وكأَنِّي على الزَّمانِ رَقيبُ”.
حسناتي عند الزَّمانِ ذنوبُ وفعالي مذمة ٌ وعيوبُ
ونصيبي منَ الحبيبِ بعادٌ وَلغيْري الدُّنوُّ منهُ نَصيبُ
كلَّ يوْمٍ يَبْري السِّقامُ محباً منْ حَبيبٍ ومَا لسُقمي طبيبُ
فكأنَّ الزمانَ يهوى حبيباً وكأَنِّي على الزَّمانِ رَقيبُ
إنَّ طَيْفَ الخيالِ يا عبْلَ يَشفي وَيداوي بهِ فؤادي الكئيبُ
وهلاكي في الحبِّ أهوَنُ عندي منْ حياتي إذا جفاني الحبيبُ
يا نسيم الحجازِ لولاكِ تطفي نارُ قلْبي أَذابَ جسْمي اللَّهيبُ
لكَ منِّي إذا تَنفَّستُ حَرٌّ ولرَيَّاكَ منْ عُبيلة َ طيبُ
ولقد ناحَ في الغُصونِ حمامٌ فشجَاني حنينُهُ والنَّحيبُ
باتَ يشكُو فِراقَ إلفٍ بَعيدٍ وَينادِي أَنا الوحيدُ الغريبُ
ياحمامَ الغصونِ لو كنتَ مثلي عاشقاً لم يرُقكَ غُصْنٌ رَطيبُ
فاتركِ الوجدَ والهوى لمحبٍ قلبُهُ قدْ أَذَابَهُ التَّعْذِيبُ
كلُّ يومٍ لهُ عتابٌ معَ الدَّه ـرِ وأَمْرٌ يَحارُ فيهِ اللَّبيبُ
وَبلايا ما تنقضي ورزايا مالها منْ نهاية ٍ وخطوبُ
سائلي يا عبيلَ عني خبيراً وَشُجاعاً قَدْ شيَّبَتهُ الحُرُوبُ
فسينبيكِ أنَّ في حدَّ سيفي ملكُ الموتِ حاضرٌ لا يغيبُ
وسِناني بالدَّارعينَ خَبيرٌ فاسأليهِ عما تَكون القلوبُ
كمْ شُجاعٍ دَنا إليَّ وَنادَى يا لَقَوْمي أَنا الشُّجاعُ المَهيبُ
ما دَعاني إلاَّ مَضى يَكْدِمُ الأَرْ ض وَقَدْ شُقَّتْ عَلَيْهِ الجُيُوبُ
ولسمرِ القَنا إليَّ انتسابٌ وَجَوَادي إذَا دَعاني أُجيبُ
يضحكُ السَّيفُ في يدي وَينادي ولهُ في بنانِ غيري نحيبُ
وهوَ يَحْمي مَعِي على كلِّ قِرْنٍ مثلما للنسيبِ يحمي النسيبُ
فدعوني منْ شربِ كأسِ مدامِ منْ جوارٍ لهنَّ ظرفٌ وطيبُ
وَدَعُوني أَجُرُّ ذَيلَ فخَارٍ عِندَما تُخْجِلُ الجبانَ العُيُوبُ
وحين تبعد عنه عبلة ، ويذهب لوداعها يقول وهو يتمزق حسرة وألما من نار البعاد:
أشاقكَ مِنْ عَبلَ الخَيالُ المُبَهَّجُ فقلبكَ فيه لاعجٌ يتوهجُ
فقَدْتَ التي بانَتْ فبتَّ مُعذَّبا وتلكَ احتواها عنكَ للبينِ هودجُ
كأَنَّ فُؤَادي يوْمَ قُمتُ مُوَدِّعاً عُبَيْلَة مني هاربٌ يَتَمعَّج
خَليلَيَّ ما أَنساكُمَا بَلْ فِدَاكُمَا أبي وَأَبُوها أَيْنَ أَيْنَ المعَرَّجُ
ألمَّا بماء الدُّحرضين فكلما دِيارَ الَّتي في حُبِّها بتُّ أَلهَجُ
دِيارٌ لذَت الخِدْرِ عَبْلة َ أصبحتْ بها الأربعُ الهوجُ العواصِف ترهجُ
ألا هلْ ترى إن شطَّ عني مزارها وأزعجها عن أهلها الآنَ مزعجُ
فهل تبلغني دارها شدنية ٌ هملعة ٌ بينَ القفارِ تهملجُ
تُريكَ إذا وَلَّتْ سَناماً وكاهِلاً وإنْ أَقْبَلَتْ صَدْراً لها يترَجْرج
عُبيلة ُ هذا دُرُّ نظْمٍ نظمْتُهُ وأنتِ لهُ سلكٌ وحسنٌ ومنهجُ
وَقَدْ سِرْتُ يا بنْتَ الكِرام مُبادِراً وتحتيَ مهريٌ من الإبل أهوجُ
بأَرْضٍ ترَدَّى الماءُ في هَضَباتِها فأَصْبَحَ فِيهَا نَبْتُها يَتَوَهَّجُ
وأَوْرَقَ فيها الآسُ والضَّالُ والغضا ونبقٌ ونسرينٌ ووردٌ وعوسجُ
لئِنْ أَضْحتِ الأَطْلالُ مِنها خَوالياً كأَنْ لَمْ يَكُنْ فيها من العيش مِبْهجُ
فيا طالما مازحتُ فيها عبيلة ً ومازحني فيها الغزالُ المغنجُ
أغنُّ مليحُ الدلَّ أحورُ أَكحلٌ أزجُّ نقيٌ الخدَّ أبلجُ أدعجُ
لهُ حاجِبٌ كالنُّونِ فوْقَ جُفُونِهِ وَثَغْرٌ كزَهرِ الأُقْحُوَانِ مُفَلَّجُ
وردْفٌ له ثِقْلٌ وَقدٌّ مُهَفْهَفُ وخدٌّ به وَرْدٌ وساقٌ خَدَلَّجُ
وبطنٌ كطيِّ السابرية ِ لينٌ أقبّ لطيفٌ ضامرُ الكشح أنعجُ
لهوتُ بها والليلُ أرخى سدولهُ إلى أَنْ بَدا ضَوْءُ الصَّباح المُبلَّجُ
أراعي نجومَ الليلُ وهي كأنها قواريرُ فيها زئبق يترجرجُ
وتحتي منها ساعدٌ فيه دملجٌ مُضِيءٌ وَفَوْقي آخرٌ فيه دُمْلجُ
وإخوانُ صدق صادقينَ صحبتهمْ على غارة ً من مثلها الخيلُ تسرجُ
تَطوفُ عَلَيْهمْ خَنْدَرِيسٌ مُدَامَة ٌ تَرَى حَبَباً مِنْ فَوْقِها حينَ تُمزَجُ
ألا إنَّها نِعْمَ الدَّواءُ لشاربٍ أَلا فاسْقِنِيها قَبْلما أَنْتَ تَخْرُج
فنضحيْ سكارى والمدامُ مصفَّف يدار علينا والطعامُ المطبهجُ
وما راعني يومَ الطعانِ دهاقهُ إليَ مثلٍ منْ بالزعفرانِ نضرِّجُ
فأقبلَ منقضَّاعليَّ بحلقهِ يقرِّبُ أحياناً وحيناً يهملجُ
فلمَّا دنا مِني قَطَعْتُ وَتِينَهُ بحدِّ حسامٍ صارمٍ يتفلجُ
كأنَّ دماءَ الفرسِ حين تحادرتْ خلوقُ العذارى أو خباءُ مدبجُ
فويلٌ لكسرى إنْ حللتُ بأرضهِ وويلٌ لجيشِ الفرسِ حين أعجعجُ
وأحملُ فيهمْ حملة ً عنترية ً أرُدُّ بها الأَبطالَ في القَفْر تُنبُجُ
وأصدمُ كبش القوم ثمَّ أذيقهُ مرارَة َ كأْسِ الموتِ صبْراً يُمَجَّجُ
وآخُذُ ثأرَ النّدْبِ سيِّدِ قومِهِ وأضرُمها في الحربِ ناراً تؤجَّجُ
و إني لحمالٌ لكلِّ ملمة ٍ تَخِرُّ لها شُمُّ الجبالِ وَتُزْعَجُ
وإني لأحمي الجارَ منْ كلّ ذلة ٍ وأَفرَحُ بالضَّيفِ المُقيمِ وأَبهجُ
وأحمي حمى قومي على طول مدَّتي الى أنْ يروني في اللفائفِ أدرجُ
فدُونَكُمُ يا آلَ عَبسٍ قصيدة ً يلوحُ لها ضوْءٌ منَ الصُّبْح أبلَجُ
ألا إنها خيرُ القصائدِ كلها يُفصَّل منها كلُّ ثوبٍ وينسجُ
وعندما يعلم الحبيب الشاعر ما تعانيه محبوبته من نار حبه يفرح ، ويهش قلبه ويقول:
صحا مِنْ بعْدِ سكرته فؤَادي وعاود مقْلتي طِيبُ الرُّقاد
وأصبح من يعاندني ذليلا كَثيرَ الهَمّ لا يَفْدِيهِ فادي
يرى في نومهِ فتكات سيفي فَيَشْكُو ما يَرَاهُ إلى الوِسادِ
ألا ياعبل قد عاينتِ فعلي وبانَ لكِ الضلالُ من الرَّشاد
وإنْ أبْصَرْتِ مِثْلِي فاهْجُريني ولا يَلْحَقْكِ عارٌ مِنْ سَوادي
وإلاَّ فاذكري طَعني وَضَربي إذا ما لَجّ قَوْمُك في بِعادي
طَرَقْتُ ديار كِنْدَة َ وهي تدْوي دويَّ الرعدِ منْ ركضِ الجياد
وبَدَّدْتُ الفَوارِسَ في رُباها بطعنٍ مثلِ أفواه المزادِ
وَخَثْعَمُ قد صَبَحْناها صَباحاً بُكُوراً قَبْلَ ما نادى المُنادي
غدوا لما رأوا من حد سيفي نذير الموت في الأرواحِ حاد
وعُدْنا بالنّهابِ وبالسَّرايا وبالأَسرَى تُكَبَّلُ بالصَّفاد
وإذا عاوده الصد والدلال يقول:
إذا رشقت قلبي سهامٌ من الصَّدّ وبدلَ قربي حادثُ الدَّهر بالبعد
لبست لها درعاً من الصَّبر مانعاً ولاقَيتُ جَيْشَ الشَّوْقِ مُنْفرداً وحدي
وبتُّ بطَيْفٍ منْكِ يا عبلَ قانِعاً ولو باتَ يسرى في الظَّلام على خدّى
فبالله يا ريحَ الحجازِ تنفَّسي على كَبدٍ حَرَّى تَذُوبُ من الوجْدِ
ويا بَرْقُ إنْ عَرَّضت من جانبِ الحمى فَحَيِّ بني عَبْسٍ على العلم السَّعْدي
وانْ خمدتْ نيرانُ عبلة موهناٌ فكن أنتَ في اكنافها نيّرَ الوقد
وَخَلِّ النّدَى ينْهلُّ فوقَ خِيامِها يُذَكِّرُها أني مُقيمٌ على العَهْدِ
عدِمْتُ اللّقا إنْ كنتُ بعد فِراقها رقدْتُ وما مَثَّلْتُ صورَتها عندي
ومَا شاقَ قَلبي في الدُّجَى غيرُ طائرٍ ينوحُ على غصنٍ رطيب من الرَّند
به مثل ما بي فهو يخفى من الجوى كمَثْل الذي أخفِي ويُبْدي الي أبدي
ألا قاتلَ اللهُ الهوى كم بسيفهِ قتيلُ غرامٍ لا يُوَسّدُ في اللَّحْدِ
ويعتب على عبلة عدم حفظها عهد الهوى ، بعد عهد من الوصال، ويخبرها كريم فعاله فيقول:
ألا يا عبل ضيعتِ العُهودا وأمسَى حبكِ الماضي صُدُودا
وما زالَ الشبابُ ولا اكتهلنا ولا أبْلى الزَّمانُ لنا جديدا
وما زالتْ صوارمنا حداداً تَقُدُّ بها أنامِلُنا الحديدا
سَلي عنَّا الفزاريّينَ لمَّا شَفَيْنَا مِنْ فَوَارسها الكُبُودا
وخلينا نسائهمُ حيارى قُبَيْلَ الصُّبْحِ يَلْطِمْنَ الخُدُودا
مَلأْنا سائِرَ الأَقطار خَوْفاً فأضحى العالمونَ لنا عبيدا
وجاوزنا الثريا في علاها ولم نَتْرُك لقَاصِدَنا وَفُودا
إذا بَلَغَ الفِطامَ لنا صبيٌّ تَخِرُّ لهُ أعاديَنا سُجُودا
فمن يقصدْ بداهية ٍ الينا يرى منا جبابرة ً أسودا
ويَوْمَ البَذْلِ نعْطي ما مَلَكْنا ونملا الأرضَ إحسانا وجودا
وننعلُ خيلنا في كلَّ حربٍ عِظاماً دامياتٍ أَوْ جلُودا
فَهَلْ مَنْ يُبْلغ النُّعْمانَ عنَّا مَقالاً سَوْفَ يَبْلغهُ رشيدا
إذا عادتْ بَنو الأَعْجام تَهوي وقد وَلَّتْ ونَكَّسَت البنُودا
عنترة الشاعر الرقيق ليس هو الفارس المغوار ، فعندما يكتب عشقا في محبوبته يرق ويشف في وصفها ودلالها فيقول:
لعُوبٌ بأَلْبابِ الرّجال كأَنَّها إذا أَسْفَرَتْ بَدْرٌ بدا في المَحَاشِدِ
شَكَتْ سَقَماً كيْما تُعَادَ وما بها سِوَى فَتْرة ِ العيْنَين سقْمٌ لِعائِدِ
منَ البيض لا تلْقاكَ إلاَّ مَصونَة ً وتمْشي كَغُصْنِ البانِ بينَ الولائِدِ
كأَنَّ الثُّريَّا حينَ لاحَتْ عَشيَّة ً على نحرها منظومة ٌ في القلائدِ
منعَّمة الأطرافِ خودٌ كأنها هلالٌ على غصنِ من البانِ مائدِ
حوَى كلَّ حسن في الكواعبِ شخْصها فليسَ بها إلاَّ عيوبُ الحواسدِ
والعاشق لا يخفي هواه ، وكيف يخفيه ودمعه شاهد على عشقه ، ومهما قاتل صبره وتجلد إلا أن هواه مفضوح فيقول:
إذا كانَ دمْعي شاهدي كيفَ أجْحَدُ ونارُ اشتياقي في الحشا تتوقَّد
وهيهاتَ يخفى ما اكنُّ من الهوى وثوبُ سقامي كلَّ يومٍ يجدَّدُ
أقاتلُ أشواقي بصبري تجلداً وقلبيَ في قيدِ الغرامِ مقيدَّ
إلى الله أشكُو جَوْرَ قَوْمي وظُلْمَهُمْ إذا لم أجِدْ خِلاً على البُعد يَعْضُدُ
خليليَّ أمسى حبُّ عبلة قاتلي وبأْسِي شديدٌ والحُسامُ مُهَنَّدُ
حرامٌ عليّ النومُ يا ابنة َ مالكٍ ومَنْ فَرْشُهُ جمْرُ الغَضا كيْف يَرْقُدُ
سأندبُ حتى يعلم الطيرُ أنني حزينٌ ويرثي لي الحمامُ المغرِّدُ
وأَلثِمُ أرْضاً أنْتِ فيها مقيمَة ٌ لَعَلَّ لَهيبي مِنْ ثرى الأَرضِ يَبْرُدُ
رَحَلْتِ وقلْبي يا ابْنَة َ العمِّ تائهٌ على أثرِ الأظغانِ للرِّكب ينشدُ
لئنْ تشمتِ الأعداء يا بنتَ مالكٍ فإن ودادي مثلما كانَ يعهدُ
عندما يرى المحب محبوبه ، يتغزل فيها ويقول:
لمن الشموسُ عزيزة َ الأحداج يطلعنَ بينَ الوشيِ والديباجِ
منْ كلّ فائقة ِ الجمال كدمية ٍ من لؤْلُؤٍ قدْ صُوِّرَتْ في عاج
تمشي وَتُرفِلُ في الثِّيابِ كأَنَّها غصنٌ ترنحً في نقاً رجاجِ
حفَّتْ بهن مَناصلٌ وذَوابلٌ ومشتْ بهنَّ ذواملٌ ونواجِ
فيهن هيفاءُ القوام كأنها فُلكٌ مُشرَّعة ٌ على الأَمواج
خطفَ الظلامُ كسارقٍ من شعرها فكأَنَّما قرَنَ الدُّجى بدَياجي
ابصرتُ ثمَّ هويتُ ثمَّ كتمتُ ما أَلقى وَلمْ يَعْلَمْ بذَاكَ مُناجي
فوَصلْتُ ثمَّ قَدَرْتُ ثمَّ عَفَفْتُ من شرَفٍ تناهى بي إلى الإنضاج
وعندما يرى عنترة ما فعل الحب بالمحبين ، يحمد حبه ، ويثني على صبره وتجلده ، وتحمله لويلات الحب ونيرانه ، فيقول:
إذا لعبَ الغرامُ بكلَّ حرَّ حَمِدْتُ تجلُّدي وشَكَرْتُ صبري
وفضلتُ البعادَ على التداني وأخفيت الهوى وكتمت سرِّي
ولا أُبْقي لعذَّالي مجالاً ولا أشْفي العدُوَّ بهتْكِ سِتْري
عرَكْتُ نَوائِبَ الأَيام حتى عرفتُ خيالها منْ حيثُ يسري
وذلَّ الدَّهر لمَّا أن رآني أُلاقي كلَّ نائبة ٍ بصدري
وما عابَ الزَّمانُ عليّ لوْني ولا حَطّ السوادُ رفيع قَدري
سموتُ إلى العلا وعلوتُ حتى رأَيتُ النَّجمَ تَحتي وهو يجري
وقَوماً آخرين سَعَوا وعادُوا حيارى ما رأوا أثراً لأثري
وعنترة الذي خبر صروف الدهر وفعاله ، وعرف الموت مرات عدييدة في معاركه ، واجتاز الصحاري بحثا عن الحرية والعدالة ، وطمعا في قلب حبيبته ، يؤمن بقضاء الله وقدره ويؤكد هذا شعرا فيقول:
إذا كان أمرُ الله أمراً يُقَدّر فكيفَ يفرُّ المرءُ منْه ويحذَرُ
ومن ذا يردُّ الموتَ أو يدفعُ القضا وضرْبتُهُ محْتُومة ٌ ليس تعثرُ
لَقد هانَ عِنْدي الدَّهْرُ لمَّا عرفْتُهُ وإني بما تأْتي المُلمَّاتُ أخبَرُ
وليس سباعُ البَرّ مثْلَ ضِباعِهِ ولاَ كلُّ مَنْ خاض العَجاجة َ عَنْتَرُ
سلُوا صرْفَ هذَا الدَّهْر كمْ شَنَّ غارة ً ففرَّجْتُها والمَوْتُ فيها مشَمِّرُ
بصارم عَزْمٍ لوْ ضرَبتُ بحَدِّهِ دُجى اللَّيل ولَّى وهو بالنَّجْم يَعثُر
دعوني أجدُّ السَّعي في طلب العُلا فأُدْرِكَ سُؤْلي أو أمُوتَ فأُعذَرُ
ولاَ تختشوا مما يقدرُ في غدٍ فما جاءَنا منْ عالم الغيبِ مخبرُ
وكمْ منْ نَذِيرٍ قدْ أَتَانا محذِّراً فكانَ رسولاً في السُّرور يبَشّر
قفي وانظري يا عبلَ فعلي وعايني طِعاني إذَا ثَارَ العَجاجُ المكدّر
تري بطلاً يلقى الفوارسَ ضاحكاً ويرجَعُ عنْهمْ وهو أشعثُ أَغْبَرُ
ولا ينثني حتى يخلى جماجماً تَمرُّ بنها ريحُ الجَنوبِ فتَصْفر
وأجْسادَ قوْمٍ يَسكنُ الطَّيْرُ حَولَها إلى أن يرى وحشَ الفلاة ِ فينفر
وكم من مرة مشى الواشي بين عنترة وعبلة ، وحاولوا التفريق بينهم ، ولكنه يعاتبها على تصديقها للوشاة ، ويعتذر لها إن كان قد أخطأ في حقها ، ويتودد إليها بشعره فيقول:
يا عبلَ خلّي عنكِ قوْلَ المفْتري واصْغي إلى قَوْلِ المحِبِّ المُخبِرِ
وَخُذي كلاماً صغْتُهُ من عَسجَدٍ ومَعانياً رَصَّعْتُها بالجوْهر
كَم مَهْمَهٍ قفْرٍ بنفْسي خُضْتُهُ ومفاوزِ جاوزتها بالأبجر
كم جحْفل مثْل الضباب هزمتهُ بمهندٍ ماض ورمح أسمر
كم فارسٍ بينَ الصُّفوفِ أخذْتُهُ والخيْلُ تعْثرُ بالقنا المتكسر
يا عَبلَ دُونك كلَّ حيٍّ فاسأَلي إنْ كان عنْدكِ شُبْهة ٌ في عَنْتر
يا عَبلَ هلْ بُلِّغتِ يوماً أنني ولّيْتُ مُنْهزماً هَزيمة َ مُدبرِ
كم فارس غادَرْت يأْكلُ لحْمَهُ ضَاري الذّائبِ وكاسِرات الأَنسُر
أفري الصدورَ بكلَّ طعن هائل والسابغاتِ بكلَّ ضربٍ منكرِ
وإذا ركبتُ ترى الجبالَ تضجُّ من ركْضِ الخيولِ وكلَّ قُطْرٍ مُوعِرِ
وإذا غزوتُ تَحومُ عِقبانُ الفَلا حولي فَتُطْعِمُ كَبْدَ كلِّ غَضَنْفَرِ
ولكم خطفتُ مدرعاً من سرجهِ في الحَرْب وهو بنَفْسهِ لم يَشْعُرِ
ولَكمْ وَرَدْتُ الموت أعْظَمَ مَوْرِدٍ وصدرت عنهُ فكانَ أعظم مصدر
يا عبلَ لو عاينْتِ فِعلي في العِدَى من كلِّ شِلوٍ بالتُّرابِ مُعفَّرِ
والخيْلُ في وسطِ المَضيق تبادَرَتْ نَحْوي كمثلِ العارِضِ المتَفَجِّر
منْ كلِّ أدْهَم كالرِّياحِ إذا جرى أو أشهبِ عالي المطا أوْ أشقر
فصرَخْتُ فيهمْ صرخة ً عَبْسية ً كالرّعدِ تدوي في قلوبِ العَسْكر
وعطفتُ نحوهم وصلت عليهم وَصَدَمْتُ مَوْكِبَهُم بصَدر الأبجر
وطرحْتُهُم فوقَ الصّعيد كأَنّهُم أعجاز نخلٍ في حضيض المحجر
ودِماؤُهمْ فوْقَ الدُّروعِ تخضّبَتْ منها فصارت كالعقيق الأحمر
ولربما عثر الجواد بفارس ويخالُ أنَ جوادهُ لم يعثر
و عبلة لا تفارق عنترة في الصحو أو في المنام ، فهاهو يقول:
زارَ الخيالُ خيالُ عَبلَة َ في الكَرى لمتِّيم نشوانَ محلول العرى
فنهضتُ أشكو ما لقيتُ لبعدها فتنفَّسَتْ مِسكاً يخالطُ عَنْبَرا
فضَممتُها كيما أقبِّلَ ثغرَها والدَّمعُ منْ جَفنيَّ قد بلَّ الثرى
وكشفتُ برقعها فأشرقَ وجهها حتى أعادَ اللَّيلَ صُبحاً مُسفِراً
عربية ٌ يهتزُّ لين قوامها فيخالُه العشَّاقُ رُمحاً أسمرا
محجوبة ٌ بصوارمٍ وذوابل سمرٌ ودونَ خبائها أسدُ الشرى
يا عَبلَ إنَّ هَواكِ قد جازَ المَدى وأنا المعنى فيكِ من دون الورى
يا عَبلَ حبُّكِ في عِظامي مَعَ دَمي لمَّا جرت روحي بجسمي قدْ جرَى
وَلقد عَلِقْتُ بذَيلِ مَنْ فَخُرتْ به عبسٌ وسيفُ أبيهِ أفنى حميرا
يا شأْسُ جرْني منْ غرامٍ قاتلٍ أبداً أزيدُ به غراماً مسعرا
يا ساشُ لولا أنْ سلطانَ الهوى ماضي العزيمة ِ ما تملكَ عنترا
وفي لحظات الصفاء والدلال يداعب عنترة عبلة ، وتداعبه ، ويسجل هذا شعرا ، فيقول:
ضحكتْ عبيلة ُ إذ رأتني عارياً خلق القميص وساعدِي مخدوُش
لا تَضْحكي مني عُبيلة ُ واعْجبي مني إذا التفتْ عليّ جيوشُ
ورأيتِ رمحي في القلوبِ محكماً وعليهِ منْ فَيْضِ الدِّماءِ نقوشُ
ألقى صدورَ الخيل وهي عوابسٌ وأنا ضَحوكٌ نحْوها وبَشُوشُ
إني أنا لَيثُ العرين ومَنْ له قلْبُ الجبانِ مُحيَّرٌ مدْهوش
إني لأعجبُ كيفَ ينظرُ صورتي يوم القتال مبارزٌ ويعيشُ
ولا يكتفي الفارس النبيل بمحاربة الأعداء ، بل يحارب ما يبتليه به الزمان من رزء و أحزان ونوائب ، ويصف صديق رحلته في محاربة الأعداء ومحاربة الزمن ، وهو حصانه الأدهم ، فيقول:
حاربيني يا نائباتِ اللَّيالي عنْ يميني وتارة ً عن شمالي
واجْهَدي في عَداوَتي وعِنادي أنتِ والله لم تُلِمِّي ببالي
إنَّ لي همة ً أشدُّ من الصخـ ـر وأقْوى منْ راسياتِ الجبال
وسِناناَ إذا تعسفتُ في الليْـ لِ هداني وردَّني عن ضلالي
وجواداً ما سارَ إلاَّ سرَى البَرْ قُ وَرَاهُ من اقْتداحِ النّعال
أدهمٌ يصدعُ الدجى بسوادٍ بين عينيه غرة ٌ كالهلال
يفتديني بنفسه وأفدّيـ ـهِ بنَفْسي يوْم القِتال ومَالي
وإذا قامَ سوقُ حربِ العوالي وتلَّظى بالمرْهفاتِ الصقّال
كنت دَلاَّلها وكان سناني تاجراً يشتري النفوس الغوالي
يا سِباعَ الفَلاَ إذا اشْتعل الحر بُ اتبعيني من القفار الخوالي
إتبعيني ترى دماءَ الأعادي سائلاَتٍ بين الرُّبى والرِّمال
ثم عودي منْ بعد ذا واشكريني واذكري ما رأيْتِهِ منْ فعالي
وخُذي منْ جَماجمِ القوْمِ قوتاً لبنيكِ الصّغار والأشبال
ها هو يشكو لندمائه لوعة غرامه:
هذِه نارُ عبلة ٍ يا نديمي قد جلتْ ظلمة َ الظَّلام البهيم
تتلظَّى وَمثْلُها في فؤادي نارُ شَوْق تزْداد بالتَّضريم
أَضْرمَتْها بيضاءُ تهْتز كالْغُصْـ ن اذا ما انثنى بمرِّ النسيم
وكَستْهُ أنْفاسُها أرَجَ النَّـدى
ويتغزل في عبلة ويقول:
كاعبٌ ريقها ألذُّ من الشهـدِ اذَا مازجتْهُ بنْتُ الكُرُوم
كلما ذُقتُ بارداً من لَماها خلتهُ في فمي كَنار الجحيم
سَرقَ البدْرُ حسْنَها واسْتعارَت سحرَ أجفانها ظباءُ الصَّريم
وغرامي بها غرامٌ مقيمُ وعذابي منَ الغرام المقيم
واتّكالي على الذِي كلّما أبـ صرَ ذلّي يزيد في تعظيمي
ومُعيني على النَّوائبِ ليثٌ هو ذخْري وفارجٌ لهمومي
ملِكٌ تسْجُدُ المُلوكُ لذِكْرَا ه وتومي إليهِ بالتفخيم
وإذا سارَ سابقتهُ المنَايا نحوَ أعداهُ قبلَ يومِ القدوم
ويخبرها عن مقدار حبه لها فيقول:
أُحِبُّكِ يا ظَلُومُ فأَنْتِ عِنْدي مكان الرُّوح من جسدِ الجبان
ولو أَني أقولُ مكانَ روحي خشيتُ عَليْكَ بادِرَة َ الطّعانِ
ويشاركه طائر البان مشاركة روحية في شكوى الحب والهجران:
يا طائر البان قد هيَّجتَ أشجاني وزِدْتَني طرَباً يا طائرَ البانِ
إن كنتَ تندب إلفاً قد فجعتَ بهِ فقد شجاكَ الذي بِالبينِ أشجاني
زدني من النَّوح واسعدني على حزني حتى تَرى عجباً من فَيْضِ أجفاني
وقِفْ لتَنْظُرَ ما بي لا تَكنْ عَجِلاً واحذَرْ لِنَفْسِكَ من أَنْفاسِ نيراني
وطرْ لعلك في ارض الحجازِ ترى رَكْباً على عَالِجٍ أوْ دون نَعْمان
يسري بجارية ٍ تنهلُّ أدمعها شوقاً إلى وطن ناءٍ وجيران
ناشدتُكَ الله يا طيرَ الحمامِ إذا رأيتَ يوْماً حُمُولَ القوْمِ فانعاني
وقلْ طريحاً تركناهُ وقد فنيت دُموعُهُ وهوَ يبكي بالدَّم القاني
ونسمعه يبثها وجده وهيامه:
سأُضْمِرُ وجدي في فؤَادي وأكْتُم وأَسْهرُ ليلي والعواذلُ نوَّمُ
وأطْمعُ من دَهري بما لا أنالهُ وألزمُ منه ذلَّ من ليسَ يرحمْ
وأرجو التداني منكِ يا ابنة مالكٍ ودونَ التَّداني نارُ حَرْبٍ تُضَرَّمُ
فمني بطيفِ من خيالكِ واسألي إذا عادَ عني كيفَ باتَ المتيَّمُ
ولا تَجْزَعي إنْ لَجَّ قوْمُكِ في دَمي فما لي بعْدَ الهجرِ لَحمٌ ولا دَمُ
ألم تسمعي نوحَ الحمائمٍ في الدجى فمنْ بعض أشجاني ونوحي تعلّموا
ولم يبْقَ لي يا عبلَ شخْصٌ معَرَّفٌ سوى كبدٍ حَرَّى تذوبُ فأَسقمُ
وتلكَ عِظامٌ بالياتٌ وأَضْلعٌ على جلدِها جيْشُ الصُّدودِ مخيِّمُ
وإنْ عشْتُ منْ بَعد الفراقِ فما أنا كما أدَّعي أني بعبلة َ مُغْرَمُ
وإنْ نامَ جفني كانَ نومي علالة ً أقولُ لعلَّ الطَّيف يأتي يسلّم
أَحِنُّ إلى تلكَ المنازلِ كلّما غدَا طائرٌ في أيكَة ٍ يترَنَّمُ
بكيتُ من البيْنِ المُشِتِّ وإنني صبورٌ على طعن القنا لو علمتُم