بدأت الصين في الانفتاح على الخارج والاصلاح في الداخل. وفي هذا الجو المتحول بدأت اسرائيل بحلمها القديم، في عثورها على ثغرة في جدار الصين والتسلل عبرها، وفتحت الباب أمام تحسّن العلاقات الصينية الأميركية، والتي كسرت الجليد الذي كان قائماً بينهما منذ عام 1949. عناصر كثيرة خدمت اسرائيل في هذا التقارب وفي اعتماد النهج الجديد بقيادة لدينغ شياو بينغ، في نزع صفة العدو عن الغرب، التي كانت تعتبر بكين اسرائيل رأس حربة للامبريالية في الشرق الأوسط.
من هذه المقدمة ينطلق مؤلف كتاب “العلاقات الصينية الاسرائيلية/ الحسابات الباردة” محمد خير الوادي، في الكشف عما يسميه عنصر مشترك خدم هذا التقارب الاسرائيلي مع الصين، هو العداء المشترك ما بين اسرائيل والصين لسياسة الاتحاد السوفييتي. ومكافحة المد السوفييتي وإضعاف علاقات موسكو مع الدول العربية.
ويصف المؤلف، هذا العنصر بأنه عنصر تقارب معنوي ونظري، وبقي كذلك الى أن حدث تطور قلب كل المعادلات النظرية في العلاقات بين الصين واسرائيل. قصد بذلك الصدامات العسكرية الواسعة التي جرت بين فيتنام والصين في 1978، حيث تدهورت العلاقات بين الحليفين السابقين بسبب اتهامات الحكومة الصينية لجارتها الجنوبية، كان وراءها غضب صيني من تنامي النفوذ السوفييتي في فيتنام وفي اجراء تغييرات على الحدود المشتركة، وسرعان ما نشبت بينهما معارك شرسة. ولقد كشفت الصدامات مع الفيتناميين الخلل الكبير الذي يعانيه الجيش الصيني، والمتمثل بتخلف الأسلحة والعتاد القتالي القديم أمام العتاد السوفييتي الحديث، الذي كان في حيازة الفيتناميين.
هنا ظهرت اسرائيل في استعدادها لمساعدة الصين، والباب الذي دخلت منه اليها في مجالات تعاون اخرى بين الجانبين. وبقاء علاقاتهما العسكرية طي الكتمان. فالصين التي ارتبطت تاريخياً بعلاقات طيبة مع العرب وأيدت قضاياهم، لا سيما القضية الفلسطينية، لم ترغب في ان يؤثر تعاونها العسكري في صداقتها مع العرب، وليومنا هذا فإن الصين لا تتحدث علناً عن تعاونها العسكري مع اسرائيل.
يؤكد المؤلف انه وفي الوقت نفسه، فإن انهيار نظام الشاه في ايران والنظام العنصري في جنوب افريقيا قد حرم الصناعات العسكرية الاسرائيلية من أكبر زبونين للمشتريات العسكرية. ولذلك تمسكت القيادة الاسرائيلية آنذاك بتقديم كل التسهيلات للتعاون مع بكين.
وفي العام 1980 نشرت وكالة تاس السوفياتية، تفاصيل بنود صفقة ادعت بأن الصين تسعى الى ابرامها مع اسرائيل، وذلك للحصول على 54 مقاتلة من طراز “كفير” وعدة مئات من دبابات “ميركافا”، بالإضافة الى مدافع ذاتية الحركة، وعربات مدرعة، وصواريخ “جبريئيل” المضادة للسفن، الى جانب معدات متنوعة، وتقدّر الصفقة بحوالي بليون دولار، ولقد ايدت تلك الرواية مجلتا “الايكونومست” البريطانية، و”نيوزويك” الأميركية. ويشير المؤلف إلى أن الصين لم ترغب في شراء الأسلحة فقط بل ضغطت من أجل الحصول على الخبرة الاسرائيلية في عملية انتاج الأسلحة في الصين، وذلك في اقامة قاعدتها المستقلة دون العودة الى القوتين أميركا والاتحاد السوفييتي. ومن المعلومات التي يكشفها المؤلف هي إن التعاون هذا قد حصل بمبادرة من رجل الأعمال الإسرائيلي شاؤول ايزنبيرغ الذي كان ولا يزال حتى الآن من خلال شركاته المتعددة الموجودة في الصين يلعب دوراً في هذا التعاون. وقد توفي سنة 1997، الا ان ورثته يملكون الآن 52 شركة مختلفة في الصين. كما ذكر اسحق رابين رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق الذي زار بكين في اكتوبر عام 1993، وخلال مأدبة عشاء رسمية خص شاؤول ايزينبيرغ المأدبة بنخب قال فيه: ان السيد ايزينبيرغ قد فتح لإسرائيل بوابة الصين. وقد ظل ايزينبيرغ يبيع التقنية العسكرية الاسرائيلية للصين على مدى سنوات عديدة.
وفي تقرير نشرته احدى المجلات قالت: ان ايزينبيرغ وصل الى الصين مع اهله لاجئاً، وكان عمره تسع سنوات، وبدأ يتطلع الى عمل، ولعدم عثوره في الصين، غادر متوجهاً الى اليابان التي كانت متحالفة مع ألمانيا، واتخذها معبراً في التوجه الى اميركا، الا انه التقى هناك اسرة تعمل بتجارة الحديد والصلب، حيث بدأ يزود اليابان شركة الحديد والصلب اليابانية بالمعادن الخام ومن ثم تزوج في اليابان، وظل هناك حتى تأسست إسرائيل وأصبح مواطناً اسرائيلياً عام 1949. ولقد وصلت العلاقات المستقبلية بين الصين واسرائيل الى اقامة العلاقات الدبلوماسية العلنية عام 1992.
على الرغم من تلاقي المصالح بينهما، يذكر المؤلف حرص الجانبين على تطوير التعاون في كل المجالات، لا سيما العسكرية منها، الا ان ظروفاً دولية حالت دون ذلك الى مستوى التحالف الاستراتيجي بين الطرفين. وبالمناسبة فإن هذا غالباً ما يحدث في العلاقات الدولية. فالقيادات تخطط لتقارب كامل يصل الى حد الاندماج، لكن ظروفاً موضوعية تبرز وتعرض هذه الرغبات وتحد منها. وهنا كما يقول المؤلف في سؤاله الهام: ما هي افاق تطور التعاون بين الجانبين؟ يذكر انه وجد من خلال استعراضه مسيرة التعاون الصيني الاسرائيلي، أن المصلحة المتبادلة، كانت الأساس التي بنيت عليه العلاقات، وان اسرائيل قد تمكنت من التسلل الى داخل الصين عبر الخدمات التي قدمتها الى بكين خصوصاً في المجال العسكري في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. ولقد تمكنت بكين من التحول خلال هذه الفترة الى قوة اقتصادية مهيبة الجانب تنافس الولايات المتحدة على عرش الريادة في الاقتصاد العالمي، كما نما وزن الصين السياسي على الصعيد الدولي، فهذا التطور الكبير لم يأت من فراغ، بل كان نتيجة العمل الدؤوب للشعب الصيني في ظل وجود أجيال من قيادة تعرف ما تريد، وتخطط لبناء الصين ونهضتها، وتستغل كل العوامل الدولية بما فيها العامل الإسرائيلي من أجل خدمة هذه الأهداف. و يخطئ من يظن أن الصين يمكن أن تخرج من جلدها نتيجة تعاونها مع هذا البلد او ذاك.
هذا الكتاب القيّم الغنيّ بما يحوي، في فصوله السبع وما يتضمن من ملاحق حول المؤسسات العسكرية الاسرائيلية التي تعاونت مع الصين، وعن الاتفاقيات الموقعة بينهما، يقدم للقارئ معلومات مهمة في موضوعه حيث كان المؤلف في عرضه يجيد الوصف كما كانت الصورة كاملة بين يديه تنطق، في عرضها وصفائها.
الكتاب: العلاقات الصينية الباردة
المؤلف: محمد خير الوادي
الناشر: دار الفارابي – بيروت