من هوميروس إلى عصر النهضة
كل شعب من الشعوب يتميّز بثقافة معينة اكتسبها بمرور الأجيال المتعاقبة من خلال ممارسته ونشاطاته المختلفة في الحياة ومن خلال تفاعله مع ما حوله من قوى ومؤثرات طبيعية وكونية، وهذه الثقافة التي هي محصلة ما توصل اليه الشعب من عادات وتقاليد ومعتقدات ، تمثّل الأساس الذي منه ينطلق المجتمع لبناء حضارته.
وكلما كانت هذه الثقافة قوية حصينة، كلما كانت نهضة الشعب وثّابة شامخة. والشعوب الغربية مرّت بتجارب عديدة أدّت بها في النهاية إلى ما هي عليه الآن، وسنحاول فيما يلي الاطّلاع على المرتكزات الأساسية لهذه الثقافة وما تولّد عنها من توجهات تمثّلت بصور متعددة من صنوف الفن والأدب، والتي بدورها أدّت إلى العديد من الاكتشافات والاختراعات. وأول بحوثنا في هذا المجال سيكون عن الأدب.
مفهوم الأدب
الأدب عند الغرب هو كل ما يعبّر عنه كتابة، وبالأخص الكتابة ذات الأشكال أو التعابير الممتازة، أو تلك التي تتضمن أفكاراً أو اهتمامات عالمية، أو التي تتعلق بالمشاعر والعواطف البشرية وتلقى تجاوباً في كل عصر وزمان. ومجمل كتابات أي بلد يسمّى أدبها، كما هو الحال بالنسبة للأدب الإنجليزي، الأدب الفرنسي، الأدب الإسباني، … الخ أو الأعمال الكتابية الخاصة بعصر من العصور، أو ما يميز أسلوب معين من الكتابة يُشار إليه بمسميات مثل: الأدب الرومانسي، الأدب الكلاسيكي، … الخ.
والأدب في اللغة العربية لا يبعد كثيراً عن هذا المعنى، إذ هو محمل مولدات الفكر البشري المعبَّر عنه بأسلوب فني جميل، ويعرف الأدب كذلك بالظُرف والتهذيب والخلق الحسن. كما وتطلق كلمة “أدب” على كل ما يليق بالشيء أو بالشخص، فيقال مثلاً: “آداب الدرس، آداب الطعام، آداب الحديث… الخ” وهنالك معانٍ أخرى عديدة لكلمة “أدب” سواء في اللغة العربية أو في اللغات الأخرى، وما يهمنا هنا هو أدب الكتابة، أو بالأحرى الكتابة الأدبية، إذ أننا ستناول مختارات من أدب الغرب بشتى أشكاله، ابتداء من هوميروس، شاعر الإغريق الأول، وحتى عصر النهضة.
الإغريق.. واضعو أسس الأدب في الغرب
هوميروس.. وشعر الملحمة…
يبدأ الأدب الإغريقي كما هو معروف لدينا بأعظم إنجازاته: “الإلياذة” و”الأوديسَّة”، أقدم الملاحم الغربية المعروفة حالياً. ويبلغ حجم كل من هاتين الملحمتين العظيمتين رواية طويلة، وتنقسم كل منهما إلى 24 جزءاً، وذلك لتتلاءم مع الأحرف الإغريقية الربعة والعشرين، إلاّ أنّ هذا التقسيم الذي لا يخدم أي غرض سوى أنه يستخدم كمرجع، فقد تمّ وضعه بعد تأليف هاتين القصيدتين. أما القصة التي تشغل كلا من الملحمتين فهي حياة وموت رؤساء القبائل المحاربين الذين شغلوا أنفسهم بالمغامرات التجارية والذين كانوا سادة اليونان إبان “العصر البطولي”. وكل منهما تهتم بأشهر حملات الغزو والحروب المعروفة لدى الإغريق
القدماء، وأهمها حرب طروادة وحصار إليون.
وهاتان الملحمتان العظيمتان منسوبتان، مع أعمال أخرى، إلى الشاعر العظيم “هوميروس” الذي لم يكن هناك من معلومات ثابتة تؤكد أو تنفي حقيقة وجوده، مما أثار بعض الجدل حوله، شأنه في ذلك شأن شيكسبير، شاعر الإنجليز الأكبر، ولذلك، وقبل أن نمضي قدماً في استعراض أعمال هذا الشاعر الكبير، نرى أنه من الضروري إلقاء بعض الضوء على ما يثار حوله من بحوث ودراسات وتكهنات، وصولاً إلى الحقيقة المرجوة.
يجمع جميع الكتّاب والنقّاد على أن “هوميروس” هو أحد أعظم الشعراء في تاريخ أوروبا الغربية. وقد قال عنه إسطرابون في جغرافيته (الكتاب الأول – الفصل الثاني) إذا ذُكر “الشاعر” كان المعني بذلك “هوميروس”. ويؤيد هذا الكلام جميع مؤرخي اليونان والرومان، أمثال: هيرودوتس، فلوطرخوس، بلينوس، وشيشرون، وغيرهم، بل ويزيدون على ذلك. كما وروى سيمونيدس وثيوكريدس أن أهالي ساقس شادوا له معبداً وعبدوه وتداولوا نقوده، وكذلك فعل أهل أزمير.
أما الكُتّاب المتأخرون في الغرب فقد لقّبوه بـ “أمير الشعراء” ، ولم تكن نظرة الشعراء والنقّاد العرب اليه بأقل من ذلك. أما فيما يختص بحياة هذا الشاعر العظيم، فهناك القليل جداً مما يمكن أن يُذكر. فالعصر الذي عاش وكتب فيه ليس مؤكداً. ولكن يستنتج الباحثون من خلال اللغة والأسلوب اللذين كتبت بهما أعماله، ومن خلال التقاليد اليونانية القديمة، أن هوميروس قد يكون عاش وكتب ما بين القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد. ويؤكد هذا الكلام جميع مؤرخي الرومان الذين يذكرون أن هوميروس نبغ قبل بناء روما بقرن ونصف. وبناء روما، كما هو معروف، كان عام 753 ق.م. وهذا يعني أن نبوغ هوميروس كان حوالي عام 903 ق.م.
أما من جهة المواطن، فهناك سبع مدن كل منها تدعي شرف انتماء الشاعر الكبير إليها. ولكن هناك احتمال يرجحه الباحثون وهو أنه قد جاء من كيوس على الساحل الغربي لآسيا الصغرى، وذلك لأن التاريخ يذكر أن هناك عائلة تحمل نفس الاسم عاشت في تلك المنطقة وادعت بأنه جدّها، وكرّس أفراد العائلة أنفسهم لتلاوة وترديد أعماله. كما ويؤكد الباحثون على أن اللهجة التي كتبت بها أعماله الفنية هي لهجة اليونانيين الآسيويين، الأمر الذي يرجّح أن يكون من سكان منطقة آسيا الصغرى.
وهناك اعتقاد سائد لدى معظم الناس شرقاً وغرباً أن هوميروس كان كفيفاً، مع العلم أنه لم يكن هناك ما يدعم هذا الاعتقاد، سوى أن مغنياً في الأوديسَّة صُوّر، وهو يلقي نشيداً حول سقوط طروادة، أنه أعمى. وكما يقول العديد من الدارسين، ليس هناك من سبب يدعو للاعتقاد با،ّ الشاعر كان يصف نفسه في هذا المشهد. وفي كلا القصيدتين لم يكن هناك من معلومات ثابتة متواترة تدلّ على ما يشير إلى السيرة الذاتية. وليس هناك أي نوع من أنواع الكتابات الأدبية التابعة لذلك العصر وتتناول وصف الشاعر هوميروس.
