أحاديث وأحداث، قصص وأخبار، طرائف وأمثال جمعها “سلام الراسي” عن ألسنة الناس لئلا تضيع.
رادار نيوز – ” أبو كايد ” شخصية لا تُنسى، معّاز متقاعد، هكذا بدا لي أن أسميه، – “كايد صار شب – الله يخلي ولادك – واستلم العصا، ولحق المعزايات، وأخوك أبو كايد تفرّغ لمعاشرة الأوادم ” .
قلت: “ان من يحمل عصا أبي كايد يجب أن يكون قدّها”.
فقال: “فتّح عينك ، كايد قدها وزياده”، وأضاف، “على سيرة العصا كنت مرة يا شيخ بو علي”… ويبدأ بسرد قصة عن العصا يدخل فيها كلمة “كلب” مثلاً، ثم يقول: “وعلى سيرة الكلب – انت اكبر قدر – سأخبرك يا شيخ بو علي”….
وهكذا ينتقل أخونا أبو كايد من سيرة إلى سيرة ولا ينتهي، وقد عللنا سبب كثرة كلامه إلى أنه يريد أن ينتقم من حاضره لماضيه الذي صرفه صامتاً في البراري مع قطعان الماعز.
وكان محور كلامه قصص المراجل والمخاطر وحديث الوحوش الكاسرة:
– “النمر تغيظه رؤية الشوارب المرتفعة، فإذا التقيت به يوماً نكّس شاربيك وقل: “السلام عليك يا بو فارس النمر “، وأكثر ما يثيره أن تعيّره بقولك: “يا بو فطايس “لأن النمر لا يأكل فريسته إلا قنصاً”.
ومع أني كنت قد تعلمت من أحد شيوخ القرية قوله المأثور في مثل هذه الحالة : “البطّال لا تعالجو بيعملك شغلتو”، إلا أن العناية الإلهية تخلت عني، فنسيت هذه الحكمة، عندما التقيت يوماً بالأخ أبي كايد في مساء يوم قارس، وكان الثلج يغطي الأرض وهو ما زال يتساقط بغزارة، فأحببت أن لا أمر بأبي كايد مرور الكرام، وأردت أن اتبسّط معه ولو بعبارة عابرة، فقلت عندما صرت مواجهاً له : ” الليلة ليلة ضياع “، وكنت أعني أن غزارة الثلج قد تدفع الضياع إلى القرية، وهو اعتقاد سائد عند القرويين.
فمدّ أبو كايد يده مصافحاً، وقبض على يدي بشدة وقال : ” على سيرة الضباع أروي لك يا شيخ بو علي قصة وقعت لي مع أحد الضباع، فقد كنت يوماً مسافراً من قرية “الجش” إلى قرية “حرفيش” في فلسطين، وكان الوقت مساء – يسعد مساك ومسا كل طيب – وكان أخوك أبو كايد في تلك الأيام شاباً مثل فرخ العقاب”…
شعرت بالزمهرير يلفحني وبالثلج يلفّني وبالظلمة تتثاقل عليّ، ورغبت أن أتملص من أبي كايد، إلا أن يده كانت ما تزال مطبقة على يدي، ولا سبيل للخلاص قبل انتهاء القصة، ولو ” زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت أثقالها “.
قلت: ” الخلاصة ” . قال : ” الخلاصة، الله يخلصك من كل مكروه، فقد كنت يومئذ أحمل بندقية
“سواري فرنساوي” لا مثيل لها في هذه البلاد، وكنت قد اشتريها من المرحوم فندي سيف – يرحم مواتك ويرحمو – وهو كان قد اشتراها من … “
فقلت مقاطعاً : ” ومذا يحدث معك على طريق قرية حرفيش ؟ “
قال : ” أريد أن أخبرك أولاً أن المرحوم الحاج محمد عبد الله علم بخبر البندقية، فأراد أن يحصل عليها مهما كلف الأمر، فكّلف المرحوم حسن عواضه بشرائها منّي بأي ثمن كان، إلا أن أخاك أبا كايد يعتقد أن البندقية والزوجة لا يحل بيعهما، وعلى سيرة الزوجة، فقد كان لأحد مشايخ جبل الدروز زوجة فاضلة لم تنجب أولاداً، والمثل بيقول : ” المرا المصاقبة خير من العاقبة “….
وأردت أن أرده إلى صلب الموضوع، فقلت ” والنتيجة “؟
قال: “النتيجة أن المرأة اسمها” حرمة “لأن الله، سبحانه تعالى، حرمها من العقل، فهي مثل المعزاية، إن تركتها على هواها أكلت الأخضر واليابس، وعلى سيرة المعزاية، تأكد يا شيخ بو علي أن المعزاية حشرة لئيمة، صحيح ! ولكن جناها أكثر من أذاها، بتاكل من لبنها، وبتاكل من لحمها، وبتاكل من شعرها، وبتاكل من بعرها – بلا مواخذة من حضرتك – وإذا ماتت بتعمل من جلدها جراب للزواده” .
وتابع أبو كايد، دون أن يبلع ريقه أو يرف له جفن، ودون أن تتحلحل قبضته عن أصابعي من “دنقٍ” أو وهن، فقال : “بشير قطبان – يرحم أمواتك ويرحمو – دعس بالمية وعشر سنين، وبقي حافظ لياقتو، وبس نوى يموت، وطلب يكتبولو وصيّتو، جمع ولادو، وولاد ولادو، وولاد ولاد ولادو: واحد وعشرين ضرّاب عصا، عدا الفروخ والجلابيط، وقال – والرجال بتنذكر بقوالها وفعالها – يا ولادي وصيتي الأخيرة هي: “المعزى عز لا تقطعوها من دياركن” .
وشعرت برجليّ تتورّمان من شدة البرد، إلا أن قبضة يد أبي كايد كانت ما تزال تضغط على يدي، وحديثه يجرّني خبط عشواء حتى خشيت أن تصيبني المنايا فتميتني قبل انتهاء القصة، فقلت له: “وين صارت قصة الضبع، لا بد أن تكون قد قضيت عليه بطلقة واحدة من بارودة السواري فرنساوي ” .
قال: “إني أريد أن أبرهن لك أن الضبع حيوان جبان، والضباع تكثر في نواحي قرية حرفيش، إلا أنه فاتني أن أخبرك أن المرحوم حسن عواضه كان صديقاً حميماً لي، وقد رافقته مرة في سفرة إلى بلاد بعلبك، وكان حسن يحمل بندقية، وكنت أنا أحمل خنجراً فقط، وحدث أن تصدى لنا جماعة من أبناء قرية الرفيد، دون أن يعرفوا من نحن، فما كان مني إلا ان ضربت يدي على خصري وسللت خنجري وصحت بهم ” أنا بو كايد ورجالي بتعرفني”….
وهنا ترك يدي ليصنع بيده إشارة إستلال الخنجر، فأصبحت يدي طليقة، فقلت له : “سلمت يمينك”… ومشيت ….
وهكذا بقيت قصة ضبع حرفيش بدون ذنب. وكنت أعلل نفسي بفرصة أكون فيها متفرغاً – على حد تعبير أبي كايد – لسياحة قصصية أخرى معه، بين فلسطين وبعلبك وجبل الدروز والرفيد، لعلي أصل أخيراً، ولو أنهكني التعب، إلى قرية حرفيش، لأشاهد نهاية قصة ضبعها الجبان إلا أن المنية عاجلت هذا الصديق الفريد قبل معرفة نهاية قصته هذه فبقيت من القصص اليتيمة.